الفن… العين الساهرة
الفن… العين الساهرة
الجمعة 13/10/2006
هل الفن أنشئ من أجل الترويح عن الناس، وإدخال المسرة لقلوبهم، أم أنه أُقيم من أجل تنوير فكر المجتمعات؟! هل الفن كما يُقال، رسالة سامية، أم أنه بؤرة الانحراف الأخلاقي كما يُردد البعض؟! هل الفن كما يرى الكثيرون، وسيلة إعلامية مهمة للكشف عن المستور، ورفع الأستار عن المتواري خلفها؟! هل الفن سمة من سمات الشعوب المتحضرة، كونه انعكاساً للواقع المعيش، أم أنه عبارة عن سيرك بهلواني، دوره ينحصر في نزع الضحكات من شفاه الناس؟!.
لقد تابعت الاعتراضات المسعورة التي اجتاحت كافة الجرائد الخليجية، وعلى الأخص الكويتية والسعودية، عن وضع الدراما التليفزيونية في رمضان، وقرأت حملة الاحتجاجات التي كُتبت عن مضامين المسلسلات الخليجية تحديداً، إلى حد دفع عدد من الأسر الكويتية، إلى نشر بيان تُعلن من خلاله استهجانها، وتتبرأ من مضمون أحد المسلسلات الكويتية التي تُعرض، وأن أحداثها تُجافي الواقع، وبها الكثير من المبالغة. وقامت بعض المواقع على الإنترنت بتهديد فريق مسلسل “طاش ما طاش” بالقتل، لتناوله قضية الإرهاب، إضافة إلى قيام أحد الشيوخ السعوديين بإصدار فتوى تُحرّم مشاهدة مثل هذا النوع من المسلسلات.
الحقيقة أن جلَّ الناس أصابتهم الدهشة من هذه الردود الانفعالية، ولا أدري لماذا يجب دوماً جعل كلمة “لا” مرسومة طوال الوقت أمام أعيننا، كأن علامة الثورة على كل شيء ومن أي شيء، أصبحت سمة بارزة في مجتمعاتنا العربية! لا أعرف لماذا يجب أن ندفن رؤوسنا في الرمال على طول الخط، بل ونستنشقها حتّى لو أدّت إلى خنقنا، وغض الطرف عمداً عمّا يجري في حوارينا وطرقاتنا مع سبق الإصرار والترصّد! لماذا لا نعترف بكل شجاعة، أن مجتمعاتنا ليست ملائكية، وأنها مثل كافة مجتمعات الدنيا فيها كبوات وزلاّت، فيها شباب ضائع، وأسر مفككة، ومراهقون مغموسون في الرذيلة وبؤر المخدرات، وفتيات ضائعات بسبب الفقر وقلة الحيلة؟!.
ليس حلاًّ أن تُغطي مجتمعاتنا وجوهها خجلاً، وتترك سيقانها عارية، يلفحها زمهرير الشتاء! مصرة بعنادها على أنها في أفضل حال، وأن كل ما يحدث مؤامرة من مؤامرات الغرب الملتوية، ودسيسة خسيسة تقوم بتمويلها جهات مشبوهة، لتشويه سمعة مجتمعاتنا، مضيفة بجانب كل هذه المبررات، أنها خطة مدروسة من قبل الفنانين، والمنتجين، للترويج لأعمالهم، واستقطاب المشاهدين، للتعاقد على أكبر قدر من الإعلانات.
الكسب بلاشك هدف مهم للفنان ولمنتج العمل وللقناة الفضائية على حد سواء، لكن هذا لا ينفي وجود ضباب كثيف في سماوات أوطاننا، بحاجة لأمطار غزيرة تقشعه عن آخره. وهذا لا ينفي أن هناك بحيرات عفنة، بحاجة لأيدٍ نافعة تفتح مجرى لها، لتُحرِّك سطحها الراكد. وهذا لا ينفي وجود أمور مخجلة، تدور داخل البيوت المسوَّرة، والحجرات المغلقة، والأروقة المظلمة، بحاجة لعيون ساهرة، تفضح سقطاتها أمام الرأي العام دون هوادة أو رحمة.
لماذا لا تريد مجتمعاتنا أن تفهم، أن طريق الصواب يستلزم في البداية المواجهة، وأن الفن من أهم الوسائل في وضع اليد على الداء لمداواة المرض! إذا استمرّت مجتمعاتنا في النحيب ليلاً ونهاراً، بحجة الحفاظ على قيمها من الانزلاق، وتركت الأمور على نصابها، حتّى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، سيؤدي هذا إلى سكب مزيد من الزيت على النار، التي لن تجد في المستقبل سواعد فتية، ولا مياهاً جارية، تكفي لإطفاء سعيرها.!!