فلتبقَ شامخاً يا لبنان
فلتبقَ شامخاً يا لبنان
الجمعة 16/12/2005
لم أزر لبنان إلا بعد سنوات من انتهاء الحرب اللبنانية، واستقرار الأمن فيه . زرته بعد أن نفض عن ثوبه أتربة جراحه، وأدار ظهره لآلام ماضيه، وتسامح مع كل من سدد له طعنة في الظلام، أو حفر له حفرة في طريقه، أو تآمر عليه، ملتهيا في تعمير أرضه، وترميم بيته، الذي صدّعت جدرانه نيران الاقتتال·
كانت بيروت وقتها مثل المرأة الجميلة، التي كان جمالها الفاتن سببا في طمع الكثيرين بها، فأصاب جسدها الكثير من التشوهات· وقفتُ حينذاك عند صخرة الروشة، مكاني المفضّل، ونظرت في امتداد البحر، وتأملت من البعد منظر جبالها الخلابة، وأطلقتُ زفرة طويلة قائلة: ما أجملك يا بيروت·
كنتُ كلما تجولتُ في وسط بيروت، ورأيتُ آثار الدمار التي بدأت تتلاشى تدريجيّا، نتيجة نهضة العمران التي بدأ مسيرتها رفيق الحريري، أهمس بصوت خافت··· ما أقوى شعبك يا لبنان·
اليوم يعيش لبنان مرحلة صعبة، تهدد بزعزعة أمنه، لإصراره على التمسّك بسيادته، وهو ما تسبب في هدر دماء مسؤولين وكتّاب وصحفيين، دفعوا حياتهم ثمنا لهذا المطلب، بدءا من الشهيد رفيق الحريري، وانتهاء بمقتل الصحفي البارز جبران تويني·
رأيت في زيارتي الأخيرة لبيروت الأقلية متفائلة، والأغلبية متوجسة من الغد· الحزن يُغلّف أعين اللبنانيين، والقلق يربض في ملامحهم، وأشباح الماضي تُفاجئهم في منامهم وتسلبهم راحة بالهم· أُحرّض السائق الذي أركب معه على التحدّث، فأجده يسكب همومه الحياتية على سمعي· أجلس مع معارفي اللبنانيات، فأجدهن مهووسات بمستقبل أبنائهن· أذهب للتسوّق، فأرى الباعة يشتكون من ركود حركة البيع والشراء· مع كل هذا المشهد الكئيب، أظل متيقنة بأن لبنان الذي أعرفه لا يعرف أهله التخاذل ولا الاستسلام، وإن حاولت فئات مغرضة دس الخوف في أحشائهم· لبنان الذي أعرفه لا يعرف أبناؤه اليأس، بالرغم من كل ظروف القهر التي تُحاصر حياتهم، والصور السلبية التي ترتسم من حولهم· لبنان الذي أعرفه، هو بلد الفكر والثقافة والحرية، التي أشمها عند كل منعطف، وفي كل شارع تمضي إليه قدمي، وألمسها عندما يخترق طبلة أذني، صوت فيروز وهي تغني ”بحبك يا لبنان يا وطني”·
نعم الأثمان باهظة، والفواتير مكلفة، دُفعت من دماء المناضلين الشرفاء، التي لولاها ما حققت الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها ما تطمح إليه، ولما عرفت الأوطان قيمة إنجازاتها، وشعرت بأسرجة الحرية تنير أروقة طرقاتها·
هناك قول جميل لطاغور، شاعر الهند العظيم؛ ”سأل الممكن المستحيل: أين تُقيم؟ فأجابه: في أحلام العاجز”·
كفكف دمعك يا لبنان، وتحمّل ما يُحاك لك كما عهدناك دوما، ولا تُسدل الوشاح على وجهك الحزين· دعْ الاستسلام لغيرك، فشعبك لا يعرف الضعف، واطرد عنك هاجس التوتر، فأنت أيها الوطن الشامخ أول من علمنا معنى التسامح، وكيف نتشبث بالحياة، ونقف من جديد، مهما كانت الضربات قاصمة!!.
المعانـاة في تاريـخ الشعوب قصيرة المـدى، مهما طالت سنوات استعبادهـا· والإرادة والتصميم والتشبث بالحياة الكريمة، تظل الشعـلة التـي تنير دروب المظلومين، مهما طالت أعـوام الليل الحالــك· والتاريخ مليء بالكثير مـن التشوهات، التي حفرهـا الطغاة والديكتاتوريون بمعاولهـم التي لا تعـرف الرحمـة، لكـن فــي نهايــة الأمــر، تنهار تماثيل الطغاة، وتنهـدم المعابــد علـى رؤوس المتجبرين، ولا يبقى سوى صــرح الحق، يقــف شامخا ليثبت أنه هـو الخالــد·