الأعمال الكاملة
الأعمال الكاملة
تقـديـم
———————
بقلم: العماد أول مصطفى طلاس
ليست هذه هي المرة الأولى التي أقدّم فيها الكاتبة المبدعة (( زينب حفني )) فقد قدّمت من قبل مجموعة مقالاتها في كتاب (( مرايا الشرق الأوسط )) والتي حملت تأملاتها للقارئ عن الواقع العربي بكل جوانبه الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وكان ذلك جزءاً من شخصيتها الثقافية، وبعضاً من نتاجها الأدبي، لأنها كما أشارت في التعريف بإحدى مؤلفاتها حيث وردت العبارة التالية (( تندرج مساهماتها بين المقال والقصة والخواطر الوجدانية )) ، فإذا ما تركنا الحديث عن المقالات التي تناولت مختلف الجوانب المتعلقة بحياة الأمة ومشكلاتها لنطلّ على ما قدمته من القصص والرواية والأدب الوجداني عند هذه الأديبة المبدعة، فستطلّ على عالم آخر له خصوصيته، عالم المرأة الغني بالتجارب والمعاناة، وهو الأدب الذاتي الاجتماعي، وفيه نتعرّف على الشخصية الحقيقية للكاتبة في طموحاتها ومشاعرها، ومعاناتها القاسية مع ما يحيط بها من مؤثرات أسرية واجتماعية وذكورية إلى أن نصل إلى الأمنيات الواضحة الرؤى في مجمل ما قدّمته للقارئ .(( أتمنى أن أكون نجحت في تصوير مشاعر المرأة بعفوية، فإنني من المؤمنات بأن الصدق الذي انتهجته في كتابة وجدانياتي هي التي جعلته يصل إلى الناس، ويمسّ شغاف قلوبهم ، فكما يقولون : الصدق أقرب طريق للوصول إلى الحقيقة )).
(( فزينب حفني )) في مجموعة قصصها ووجدانياتها تقدّم ذاتها بين القلب والعقل والواقع ، فهي واحدة من الكاتبات العربيات المبدعات اللواتي استطعن أن يبرزن في عالم الإبداع رغم كل العوائق التي تحيط بنساء الشرق، صحيح أنها من السعودية، وللسعودية تقاليدها وعاداتها، وخصوصيتها، غير أن التفاوت في بلدان المشرق العربي ليست بالكثيرة ولهذا أقول إنها برزت رغم ذلك ، وهذا يعني إنها تمتلك من قوة الإرادة، وثراء الشخصية، والروح المبدع، ما جعلها قلماً شجاعاً وروحاً وقاداً، ذات تأثير على القارئ العربي، لا فيما كتبت من مقالات متنوعة حول موضوعات من الحياة بنواحيها المتعددة، والتي تحتاج إلى الجرأة المستندة إلى ثقة بالنفس حصنتها بالمعرفة، فسرعان ما تتزعزع ، وتزعزع صاحبها معها، والغرض من الجرأة إدراك التجرّد، فلا مراعاة ولا تورية، وإنما هماك صراحة تعتمد الذوق والعلم والحس السليم، والنظرة الصائبة لاستشفاف آفاق المستقبل .
والمجموعة التي نقدّمها اليوم للقارئ كما أشرت يمكن أن ننظر إليها من محورين رئيسيين الأول: القصة القصيرة في كتابيها (( نساء عند خط الاستواء )) و (( هناك أشياء تغيب )) والرواية (( الرقص على الدفوف ))، وفي ذلك تعبّر عن رأيها بجرأة نادرة، واعترافات مثيرة عن عذابات المرأة مع الرجل الذي يتطلّع إلى إشباع غرائزه ثم الخروج من مغامراته بالفوز والانتصار على ضعفها تجاهه، فإذا بها تتصدى لهذا الموقف مخاطبة الرجل، رافضة أنانيته المفرطة وتعلن موقفها من الممارسات الذكورية المجحفة بحقها (( لكن يا رجل..أنا امرأة عصرية.. تمقت النظريات الذكورية، تعترض على عادات، تم صنعها في معامل رجولية… مشكلتي أن قلبي مرتبط بعقلي… فكيف أأتمنك على قلبي، وقد فشلت أن تنال احترام عقلي )).
تريد أن تعرّفنا من خلال قصصها القصيرة وروايتها الرائعة على رؤيتها للمجتمع، وفهمها للعلاقات الإنسانية، وأن تتلمس موقفها الملتزم بقضايا المجتمع والإنسان، وذلك من خلال تصوير العلاقات الإنسانية الزائفة القائمة على الكذب والغش في بيئة متفسخة، وهي بالتالي تريد إدانة مظاهر الزيف والخداع في العلاقات الاجتماعية، فقصصها وروايتها، جاءت معبرة عن الواقع الراهن الذي كتبت فيه، تتضمن أحداثاً واقعية مرتبطة بمكان معيّن ، وفي فترة زمنية معينة، فهي إذاً ليست من نسج الخيال أو الأسطورة، بل هي نابعة من عمق الأحداث الاجتماعية، وهي عبارة عن اعترافات تقدّمها امرأة عاشت فترة ماضية، وفيها تعبير واضح عن خيبة الأمل في المجتمع الذكوري الذي يضطهدها بممارساته الرجولية .
أما المحور الثاني فالمحور الوجداني في كتابيها (( رسالة إلى رجل )) و (( امرأة خارج الزمن )) ففيه خطاب واضح وصريح من المرأة التي تحبّ بكل جوارحها، ولا تجد صدى باقياً عند الرجال، فتثور قائلة(( أكْسِرُ حواجزك المنمقة.. أنْزِعُ جلد اسمك من جسد عمري.. أتحرر من عبودية سيطرتك.. أفجّر أأصفادك النارية… بطلقات إصرار عنيفة من براكين أنوثتي… )). إنها رسالة إلى كل رجل في خواطر مختصرة تقترب من الشعر المنثور.. وهي تبدو حزينة لما وصلت إليه، وتقدّم أحاسيسها في (( تابلوهات )) نثرية تقول فيها : صنعتها بألوان أطيافي العفوية، فجاءت مغموسة بمداد عواطفي .. (( وأضحت حروفاً نارية تنزف على صفحات أوراقي.. وتصبح جزءاً من تاريخ عمري )).
وخلاصة القول تلخصه فيما قالته في وجدانياتها في الرد على المجتمع الذكوري (( أرفض حباً يتسكع في الطرقات.. يمارس أساليب العشق الرخيص، المباح في الخفاء بأبخس الأثمان.. أريد له الحرية، والتنفس بشمم وإباء ..
اليوم قرّرت خلع هذا الثوب الاستعراضي.. وإلقاء مفتاحك في قيعان ذكرياتي، حتّى أتحرّر من طقوسك الاستعبادية ، وانتزاع نفسي بعيداً عن قاعدة عشقك )).
إنه القول الفصل، والموقف الصلب الذي يفضل الهجر بكبرياء، بعيداً عن الخضوع والخنوع للابتزاز الذكوري.. أليس موقفها شبيهاً بموقف شاعرين كبيرين الأول عمر أبي ريشة في كبريائه الذي عانى من هجر المرأة ما عانت الكاتبة زينب حفني من مجتمع الذكورة الذي أراد لكبرها أن يتصاغر أمامه فإذا بها تقابل الهجر بالكبرياء الجريحة كما فعل أبو ريشة في رائعته (( كبرياء )) :
هجرت، وخلت الهجر يرخص ما بنا ويتركنا ما بين شاك وكاره — تجاهلتنا، هل خلتنا في إيابنا تنامُ على ذلِّ اللقاء وعاره
لنا كبرنا، كم طال في التيه دربنا وكم نفضت أقدامنا من غباره — وقوفاً يرانا الموتُ، نخفي جراحنا وليس يرانا ركّعا بانتظاره
أما الشاعر الكبير الثاني فهو نزار قباني الذي كانت له رؤيا أخرى في الردّ على النساء الهاجرات، والذي يسير على درب جده الأول عمر بن أبي ربيعة المخزومي حين قال :
سلامٌ عليها ما أحبت سلامنا — فإن كرهته فالسلام على الأخرى
وفي الحالتين والمماثلة عاشت زينب حفني حياتها بالعقل الواعي الذي يرفض الأسر، واتخذت قراراتها بشؤون حياتها، مفضلة الحرية على ظلم الرجل واستبداد .
وختاماً أعتذر من القارئ العزيز عن هذه الإطالة ، لأنني لا أريد مصادرة حقه في شكل القراءة الذي يريده ، لكن هذا لا يعفينا في التقديم من أن نقرأ (( زينب حفني )) في مجموعة إنتاجها ومساهماتها في القصة والخواطر الوجدانية.. ويقيني أنها ستكون عرضة لعدد من القراءات، لأنها بالأصل تتيح للفكر أن يتأول ويتخيّل ويسأل ويجيب. والحقيقة الساطعة أن حضور (( زينب حفني )) الأدبي والفكري جاء بمثابة ترسيخ لمكانة المرأة، ومشاركتها في المشهد الثقافي العربي، الذي برزت فيه معنية بما حدث بالنقاش، بالجدل، بالسياسة، بمسائل الديمقراطية، في الحقلين العام والذاتي ، فهي إضافة لذلك كاتبة مبدعة تمتلك ناصية الصياغة الرشيقة لعبارة حافلة بالمعاناة، أبرزت من خلالها نتاج المرأة العربية لا بصفته نتاجاً رديفاً، بل هو نتاج مندرج في السياق، وبعضه فاعل فيه، بل ومساهم في إبداع متغيراته الجمالية، ونقلاته النوعية، وأخيراً يسعدني أن أقدّم هذه المجموعة الكاملة إلى القارئ، والتي أراها نهراً ثقافياً حافلاً بالمعرفة والبهجة، يحمل في تدفقه تجربة حقيقية ومعاناة صادقة، ترتفع عن خلق الجماعة بأمانة العلماء والفلاسفة …
وأترك للقارئ الغالي على القلب أن يدخل عالم الكاتبة المبدعة في جوانبه المختلفة من خلال مجموعة الأعمال الكاملة، ليستمتع كما استمتعت ولينتفع كما انتفعت، مع تمنياتي الصادقة للكاتبة التي دخلت القلوب دون استئذان أن تستمر في العطاء الدافق لكل نافع ومفيد لأمتنا العربية العظيمة، حتى تعود إلى أيام الشموخ، عنيت دولة الأمويين، دونما تعصّب شامي، ولها مني أخيراً كل الحب والتقدير والاعتزاز بما قدّمت وإلى لمزيد من العطاء الصادق.
(( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ))
التوبة ( 105)
محتوى الكتاب