مرايا الشرق الأوسط
مرايا الشرق الأوسط
Middle East’s Mirrors
﴿ مقـالات ﴾
﴿ Articles ﴾
تقديم
————
بقلم: العماد أول مصطفى طلاس
عَرَفْتُ الكاتبة المبدعة (( زينب حفني )) من خلال قراءتي المتواصلة لِمَا كانت تنشره في جريدة الشرق الأوسط صباح كل سبت من موضوعات، تحت عناوين مثيرة توحي بمضامين قيّمة، حول واقع المرأة والمثقفين في الوطن العربي، والتطلّع إلى المبادئ والقيم المعاصرة داعية بجرأة نادرة إلى معالجة الواقع للانتقال إلى ما هو أفضل ..
فارتسمت في مخيلتي صورتها المتميزة بعقلها الذي يطلّ على مشرق المعرفة راغباً في الأخذ حتى الاكتناز، مستنداً إلى معطياته الطبيعية من فطنة وذكاء وحس سليم، ومستفيداً مما يكتسبه من معارف ليجري عملية (( تحليل واستقراء)) – كما يقولون في لغة الفلسفة – لهذه المعرفة .
هذا العقل عنده نََهَم غريب يشعر معه بالحاجة الملحاح إلى اغتنام مختلف السوانح التي تساعده على أن يتبسط ويتعمق، فيتحرش بالواقع حتى يُدْرِكَ كنهه، وتطيب له معاشرة الأعماق فيقتحمها ويذهب معها إلى ما يُبْلِغُه أغراض المعرفة الرصينة، وبقدر ما يزيد إقباله على الخوض في شتى الموضوعات يزداد علمه شحذاً، ووعيه استنارةً،ثم يتثبت في معلوماته وتترسخ فيه الثقة بالأشياء التي يكب عليها، ولا يلبث أن ينفصل من كونه متعلماً يتابع المعرفة بشمولية وعمق، إلى كونه معلماً يقدم المعرفة للناس دون أن يأخذه في نهجه غرور، ودون أن يصيبه العناد، حسبه من وجوده أنه مدعو إلى التفكير فيفكر ويكتب .
وشاءت الأقدار أن أعرف الكاتبة الأديبة (( زينب حفني )) عن قُرب بعد زيارتها دمشق واحتفاء المنتديات الأدبية بها، حيث قدمت نفسها محاورةً آسرة في الشكل والمضمون، وكأني بجبران في رائعته ( النبي ) يتحدث عنها حين قال:(( إن الذات بحرُ لا يُحدُّ ولا يُقاس .. وإن الروح تسير في جميع السبل..لا تسير على خط مرسوم.. لا تنمو كما القصبة.. وإنما هي كزهرة اللوتس.. أكمامها لا تُحصى)). فوجدت جملة الخصائص التي ارتسمت في مخيلتي حقيقةً أمامي، في ذاتٍ متميزة عن غيرها من الأدبيات اللواتي نعرفهن واكتشفت أن لهذه الأديبة الكاتبة العربية (( السعودية )) عقلاً رحباً مكّنها من الانطلاق نحو التفرد عن مثيلاتها، لأنها نشأت النشأة العلمية الصحيحة في الإطلالة الواعية المتدرجة على الأدب والمعرفة والواقع المُعاش واستطاعت أن تحقق ذاتها في مواجهة هذا الواقع بجرأة نادرة وشجاعة فائقة. ولما كانت كلمة الحق أحق بأن تقال فإن (( زينب )) جاءت إلى دمشق ولها جيش من القارئين وغادرتها ولها جيش من المعجبين، فتبارك الله أحسن الخالقين .
إذا كانت مهمة الأدب هي نقل الإنسان من واقع وجوده إلى واقع التعبير عنه، فإن الكاتبة (( زينب حفني )) استطاعت أن تنقل هذا الواقع بمهارة فائقة، وتأملات عميقة، ليست ميتافيزيقية كتأملات ( ديكارت ) وإنما هي تأملات في الواقع العربي بكل جوانبه الفكرية، والسياسية، والثقافية والاجتماعية… ف(( زينب حفني )) واحدة من النساء الكاتبات العربيات اللواتي استطعن أن يبرزن في عالم الإبداع رغم كل العوائق التي تحيط بنساء الشرق، صحيح أنها من السعودية، وللسعودية تقاليدها وعاداتها وخصوصيتها، غير أن التفاوت والاختلاف في بلدان المشرق العربي ليست بالكثيرة، ولهذا أقول، إنها برزت رغم ذلك ، فهذا يعني أنها تمتلك من قوة الإرادة، وثراء الشخصية، والروح المبدع ، ما جعلها قلماً شجاعاً،وروحاً وقاداً، ذات تأثير على القارئ العربي لا فيما كتبت من روايات وأقاصيص فقط، وإنما في مقالاتها المتنوعة حول موضوعات من الحياة بنواحيها المتعددة، والتي تحتاج إلى الجرأة، ولا أعني شجاعة قلب ولا قوة جسدية، إنما جرأة تستند إلى ثقة بالنفس ، حصّنتها بالمعرفة، لأن الثقة إن لم تكن ابنة المعرفة فسرعان ما تتزعزع وتزعزع صاحبها معها، والغرض من الجرأة إدراك التجرد فلا مراعاة ولا تورية، إنما هناك صراحة تعتمد الذوق والعلم ، والحس السليم .. والنظرة الصائبة لاستشفاف آفاق المستقبل .
فالمقالات التي قدمتها في نقد أشياء اجتماعية قد تتعلق بمسلك فرد أو بمسلك شعب، والتي تضمنت أفكاراً تبدي فيها ارتياحاً إلى شيء ما، كما تبدي استياءها من شيء آخر، وقد اختارت موضوعاتها بكل تأن ٍّوإدراك بوصفها ذات علاقة صميمة بحياة الإنسان العربي، بحياة المواطن العربي، والمرأة العربية .
وبعد : ما الذي نقرأه في تأمّلات (( زينب حفني )) والذي يستحق أن نتوقف عنده دون مصادرة الموضوعات الأخرى في المجموعة .
إن أول ما يلفت النظر وقوف الكاتبة عند تلك العلاقة المحيرة بين القول والفعل، فإلى أي حد نستطيع أن نقول :
إن هناك تطابقاً بين قول المثقف العربي وفعله، وكأني بالكاتبة تسأل : ما قيمة الأقوال خارج الممارسة ؟ ما قيمة الدفاع عن القيم والمثل العليا إذا كان المدافع عنها منغمساً في أحط المساوئ والعادات؟.. وعند هذه النقطة المركزية كأني بالكاتبة تُخرجُ ذاتها من تلك العلاقة التنافرية عندما تتصدى لتعريتها، والحق أن حياة الكاتبة الوحدة بين النظر والعمل.. بين القول والسلوك .. أليست هي المتمردة بالمعنى الشامل للتمرد ؟!..
ولأنها امرأة، فمن الطبيعي أن تتصدى لواقع المرأة واغترابها في عالمنا العربي، متحدثةً بلسان المرأة .. وهذا أمر على غاية من الأهمية، إذ أن أغلب ما قيل عن المرأة فإنما قيل على لسان الرجل.. أما عندما تتصدى بوصفها امرأة، فإنها تكتب من قلب المأساة .. مأساة المرأة واغترابها، أفليس من حقها أن تدافع عن ذلك القول السلبي الزائف الذي ينظر إليها على أنها ليست سوى كائن يجيد الترف وحياة الدعة .. وتعيش خلف أسوارها منفصلة عن الحياة، لكن هذا لم يمنع (( زينب حفني )) من النظر إلى حالة الحصار التي تعيشها المرأة العربية.. وإلى شخصيتها التي تربّت منذ الصغر على أنها مخلوق خفيف هش لا حول له ولا قوة ، لكن عليها أن تخرج من هذا القمقم لتغدو إنساناً فاعلاً ، وتحطم النزعة الذكورية التي ترى في المرأة مخلوقاً ملعوناً مضطرب العواطف، محدود التفكير، ضيق الأفق، ولهذا ترى أنه ليس سوى الديمقراطية مناخاً لتحرر المرأة ، من هذا المنطلق ، عنونت إحدى مقالاتها.. بشطر من قصيدة
(( إبراهيم ناجي )) الأطلال [ أعطني حريتي أطلق يديّ ] إنها ببساطة تريد أن تخرج من ( قمقم الحَرَمْلِكْ ) .. وليست وحدها التي صرخت في وجه الواقع ، بل هناك كثيرات غيرها من اللواتي خرجن من هذا القمقم ، مبدعات وكاتبات، وسياسيات، بل إن ظهورها في عالم الأدب لدليل على مساواتها في عالم الإبداع للرجل ..
والسؤال المطروح الآن..هل يمكن عزل قضية المرأة عن الحرية عموماً، وعن حرية الفكر والكتابة على وجه الخصوص ؟.. بالتأكيد ( لا ) ولهذا فإن (( زينب حفني )) تدافع عن الديمقراطية بوصفها نظاماً اجتماعياً سياسياً وأخلاقياً، تدافع عن ذلك ، وعن تلك المواقف التي اتخذتها ضد من ينال من الحرية والإبداع.. وضد الفضائح السائدة في الوطن العربي..ومن هنا وقفت مدافعةً عن الأديب (( محمد شكري )) حين مُنِعت روايته ( الخبز الحافي ).. وقفت مدافعة عن كل الأدباء الذين تعرضت أعمالهم للمنع ، لقد تساءلت بكل حزن : ما الذي جعل مساحة الحرية الفكرية في بداية هذا القرن أكبر من تلك المساحة التي نحن عليها اليوم ؟.. وتخلص إلى قولٍ فصل [ إذا ظلت المجتمعات العربية تهاب الكلمة.. كما تهاب طلقات المدافع.. لن تتبوأ مكاناً بارزاً بين الأمم المتحضرة ] .
الكاتبة (( زينب حفني )) مسكونة بالإنسان عموماً، وبالإنسان العربي على وجه الخصوص، هذا الإنسان الذي عشش في داخله الخوف.. إن الإنسان ليس الإنسان العربي المجرد إنما تلك الشعوب الرازحة تحت وطأة الخوف.. ويأتي السؤال مأساوياً.. فأي عيشة هذه التي تداس بها كرامة الشعوب وتُسلبُ لقمة عيشها من أفواهها ؟.. ولأن الكاتبة مع الحرية فإنها تدافع عن ثقافة الرأي المتعدد، وعن حرية الكاتب من خلال هاجسها القومي المرتبط بهموم الأمة العربية عموماًُ، إلى جانب هاجسها الإنساني في الحديث عن العولمة وحوار الحضارات .
(( زينب حفني )) مسكونة بهاجس الأمة العربية، حتى ليصْدُقَ القول فيها بأنها مثقف مغتم ، بالمعنى الدقيق للكلمة، وهاجسها، كأي هاجس لمثقف عربي يظهر في البحث الدائم عن أسباب واقع الحال ، وعن سبيل الخروج من ورطة التخلف والذل اللذين هما عند العرب.. وتوقظ الانتفاضة في ذهنها الأسئلة الممضّة القديمة الجديدة.. هل تعلمت الأمة العربية من دروس الانتفاضة ؟ هل القوة فوق الحق كما يرى الكثيرون في زمن أضحت فيه لغة الغاب هي السمة البارزة في العالم ؟ هل الأمة الضعيفة المتخاذلة تدفع الآخرين إلى استباحة دمها.. وهتكِ عرضها، وسحل آدميتها والاستخفاف بمطالبها، والاستهانة بحقوقها ؟ هل قمع الحريات جعل الشعوب العربية تتقهقر إلى الوراء، وتقعد في الصفوف المتخلفة، هل ما وصل إليه العرب اليوم من مهانة هو نتيجة استخفاف الحكومات بمطالب شعوبها ؟ أين بيت القصيد؟ من أين تنبع بؤرة التردي؟. كل هذه الأسئلة تطرحها (( زينب ))، فتختصر جميع أسئلة الإنسان العربي الذي يعيش بداية القرن الواحد والعشرين ذاهلاً مستغرباً مما هو عليه ..وإذا كان السؤال نصف الجواب.. فإن أسئلة (( زينب )) تنطوي على أجوبتها في أكثر من مقال من هذه المقالات التي يضمها كتابها الذي نقدمه.. والمدقق في أجوبة (( زينب )) سيجدها قد أظهرت دون لبس أن الحق إذا لم تسنده القوة يبقى حقاً ضعيفاً ؟!.. وأن شريعة الغاب السائدة عالمياً الآن، لا تترك للعرب من الخيار سوى أن يكونوا أقوياء! ولهذا فالأمة الضعيفة هي حقاً الأمة التي تستباح.. وتقدم الجواب الأبرز عن أسئلتها ألا وهو أن استباحة حرية الأفراد.. هو الشرط الأمثل الذي يجعل العرب في مؤخرة الصف من الحضارة ..
إنها ترفع من تجربة الانتفاضة إلى درجة الحقيقة الكلية، بوصفها الطريق الأمثل لاسترجاع الكرامة الوطنية والأرض ، لأنها ترى أن العلاقة بالأرض ليست من قبيل العلاقة الخارجية، وإنما هي علاقة حب (( علاقة أمانة )) ولهذا فكل عربي كما ترى مسؤول مسؤولية مباشرة عن هذه الأرض المقدسة.. ناهيك عن أنها ليست (( عدمية )) تجاه عالمها بل هي ترفضه من أجل عالم أفضل أولاً، دون أنْ تنسى أنّ في عالمنا ما هو إيجابي كاللغة وتلك القيم العالية الموروثة التي يفتقدها الغرب.. والغرب كما نعلم عالم أوحى للشرقي بكثير من الأفكار بل ومن والأحلام.. و(( زينب )) شأنها شأن جميع الذين يعيشون مشكلات الأمة، تتوجه إلى الغرب إلى صورته التي تحملها عنه.. ولا شك أن يكون أول ما يلفت نظر الكاتبة هو الحياة الديمقراطية هناك.. حرية المرأة وحرية القول رغم أنها تنتقد الديمقراطية الأمريكية، لكنها تنتقد من أجل مزيد من الديمقراطية.. وإذا كانت تنتقد الديمقراطية الغربية على حالها الراهن ! فما بالك حين تتحدث عن واقع الحريات في الوطن العربي، فالغرب يلهم (( زينب )) كما ألهم غيرها نمط الحياة السياسية والحرية.. إنها لا تريد أن تغلق نوافذ الشرق أمام الرياح الآتية من الغرب، كما لا تريد أن يأتي الغرب على كل ما في الشرق.. وإنما تريد أن تدخل في حوار ثقافي يغني عالمنا بكل ما هو جديد ونيّر ، وبخاصة في شروط العولمة الراهنة . وهي بهذا النهج تسير على خُطَا الزعيم الهندي (( جواهر لال نهرو )) عندما قال :[ إنني أفتح جميع نوافذي للرياح الأربع ولكنني لن أسمح لأية واحدة منها أن تقتلعني من جذوري ] .
ولا بد أن يتساءل القارئ لماذا أطلقت على هذه المقالات [ مرايا الشرق الأوسط ] ؟..
في تحليل الفيلسوف الفرنسي (( ميرلو بونتي )) لعديد من الأعمال الفنية استدعى انتباهه وجود المرايا، كذلك صورها في عديد من اللوحات، وقد اعتبرها أكثر من الأضواء والظلال والانعكاسات – داخل الأشياء للجهد الصعب الخاص بالرؤية، إنها تترجم كل الانعكاسات وتعيد إنتاجها، بل لقد مال أيضاً إلى اعتبار الإنسان كما يظهر في اللوحات الفنية مرآة لأخيه الإنسان، وإن المرايا ذاتها هي أداة للسحر الشامل الذي يغير الأشياء إلى مشاهد، والمشاهد إلى أشياء، ويحول ذاتياً إلى آخر، والآخر إلى ذاتي، ومن ثم فقد أشار (( ميرلو بونتي )) على نحوٍ خاص إلى أهمية فكرة المرايا وتجلّياتها المختلفة في الإبداع والإدراك أو الفهم للفن أيضاًً. وقد تحدث عن هذه الفكرة بمعناها الحرفي وبمعناها المجازي الذي يشير إلى التكرار وإعادة الإنتاج لعلامة واقعة معينة في الأعمال الفنية .
وختاماً، أعتذر من القارئ العزيز عن هذه الإطالة لأنني لا أريد مصادرة حقه في شكل القراءة الذي يريده ، لكن هذا لا يعفينا في التقديم من أن نقرأ (( زينب حفني )) في بعض تأملاتها، ولن أغالي إذا ما قلت أن هذه التأملات التي قدمتها الكاتبة خلال عامين في جريدة ( الشرق الأوسط ) والتي تزيد عن السبعين موضوعاً بما فيها من الجِدّة والمتعة.. أقول ستكون عُرضة لعدد من القراءات لأنها بالأصل تتيح للفكر أن يؤوّل ويتخيل ويسأل ويجيب .
وأخيراً، يسعدني أن أقدّم هذه المرايا إلى القارئ، والتي أراها نهراً ثقافياً حافلاً بالمعرفة والبهجة، يحمل في تدفقه تجربة حقيقية ومعاناة صادقة، ترتفع عن تملّق الجماعة بأمانة العلماء والفلاسفة، وأترك للقارئ العزيز أن يدخل في عالم الكاتبة المبدعة ليستمتع بما استمتعت، ولينتفع كما انتفعت، ولينتظر معي كل أسبوع صباح يوم السبت .
مع تمنياتي الصادقة للكاتبة (( زينب حفني )) أن تستمر في العطاء المستمر الدافق لكل نافع ومفيد لأمتنا العربية العظيمة حتى تعود إلى أيام الشموخ، عنيت دولة الأمويين دونما تعصب ( شامي ) . ولها مني أخيراً كل الحي والتقدير والاعتزاز بما قدمت وإلى المزيد من مرايا الشرق الأوسط أيتها الكاتبة التي دخلت إلى قلوبنا دونما استئذان .
﴿ وقُلْ اعْمَلوا فَسَيرى الله عَمَلكم ورسولُه والمؤمنون ﴾ ( التوبة 105)
•••
مقـالات مقتطفـة
نساء في تاريخ الأمم
الخروج من قمم الحرملك
هل تعلمت المرأة من تاريخها ؟
رحلة ضبابية !
زمن وجبات الحب السريعة !
رحلة اكتشاف أم غربة نفس ؟
تأملات ترفض الانصياع
وجوه أخرى للحب
المرأة في خضم الإبداع
أي امرأة .. وأي رجل ؟!
المرأة علمت الرجل الحب