﴿ ملتقى عليسة الدولي للمبدعات ﴾
– المرأة المبدعة ومعوقات الإبداع –
4-8/4/2018
كثيراً ما يُطرح عليَّ سؤال تقليدي!! من هي المرأة المبدعة؟ هل بالفعل تختلف عن بنات جنسها؟ هل هي امرأة محظوظة لأن الله حباها بموهبة الكتابة الإبداعيّة؟ هل هي في نعمة تحسدها الأخريات عليها، أم أنها امرأة تعيش حياة قلقة لوقوفها وسط دائرة الخطر؟ لقد اختلف البعض حول تصنيف المرأة المبدعة! فهل هي التي تُسجّل خواطرها تحت جُنح الليل، على ضوء شمعة حين يخلد الجميع للنوم، أم هي الشاعرة، أم القاصة، أم الروائيّة التي تستخدم مشرط قلمها لكشف المستور، ونقل الواقع ممزوجاً بنكهة خيالها؟
أرى بأن المبدعة هي كل أولاء النساء. فالشاعرة تجد نفسها في كتابة قصائد تتحدّث أبياتها عن خلجات نفسها، وعمّا يدور بذهنها من أفكار تعكس قضايا مجتمعها. والقاصة هي التي تُلخّص المواقف التي تمرُّ بها أو تلك التي تجري أمام ناظريها، وتُجسّدها في عبارات مكثّفة، ولغة محلّقة، فتخرج كالومضة الخاطفة في قصص قصيرة.
جرّبت كل هذه الأجناس الأدبية. كتبتُ في بداياتي الخواطر الوجدانيّة والشعر والقصة القصيرة إلى أن رسا قاربي عند مرفأ الرواية. وقعتُ في أسرها منذ النظرة الأولى، وجعلتني أنجرف وراءها لتُصبح اليوم عالمي الأوحد.
ليس من السهل الولوج إلى عالم الرواية؛ فهو عالم ساحر وصاخب ومكتظ بمئات الشخصيات القادمة من بيئات مُختلفة وأزمنة مُغايرة. فالرواية تأخذ كاتبتها إلى منعطفات مجهولة، وتُعرّضها لمواقف غريبة، وتُحرّضها على قضاء ليالي حب آسرة، وتدفعها إلى التورّط في سقطات إباحيّة لم تُخطط لها حين خطّت سطورها الأولى.
كل رواية تُجهد ذهن الروائيّة، وليس من السهل عليها التخلّص بسهولة من شخوص رواياتها، خاصة إذا كانت مُركّبة، متسلطة، لتتفاجأ الروائيّة بأنها تتحرّك بمفردها نحو أقدراها، فاقدة السيطرة عليها وكبح جماحها ورسم نهاياتها! مع هذا أنا مُدِينة للرواية بالكثير؛ لولاها ما استطعتُ تذوّق كل أنواع المُتع المحرّمة على المرأة العربيّة تحديداً، والتملّص بمهارة من قوانين العقاب! فمن خلال عوالم رواياتي، تورّطتُ في قصص حب لم أُجرّبها على أرض الواقع، خوفاً من سطوة المجتمع! وعشتُ حيوات حلمتُ بولوجها في صغري. جعلتني الرواية أتنقّل بسهولة بين أزمنة تمنيّتُ أن أراها.
هل هناك معوقات أمام المبدعة؟ بالتأكيد هناك أثمان باهظة تدفعها المبدعة العربيّة مقارنة بالرجل المبدع، فالرجل ما زال هو الحصان الرابح في الساحة الثقافيّة! يجول ويصول بحريّة دون أن يُحاسبه المجتمع على استباحته لمجتمعه، وتعريته للواقع! لكن المرأة المبدعة ما زالت تُحاسب على مواقفها الشجاعة، ويُنظر إليها على أنها امرأة سهلة المنال، طالما رضيت أن تُشرّح مجتمعها بجرأة، وتُظهره على الملأ بكل صوره المتناقضة! للأسف ما زال المجتمع العربي إلى اليوم وإن كان بنسب متفاوتة بين مجتمع وآخر، يحكم على سلوك المرأة وشخصيتها سلباً، إذا ما قدّمت أعمالاً فاضحة كشفت من خلالها المسكوت عنه! فما زال أغلبية النقّاد السعوديين يتجاهلون أدبي حتّى لا تلتصق بهم تهمة التعاطف مع مضامينه، لكن هذا الأمر لم يثنني ولو للحظة عن متابعة طريقي، شاكرة النقّاد العرب الذين أنصفوني، بتقديم دراسات نقديّة وافية ومُنصفة في أدبي.
لقد دفعتُ أثماناً باهظة في بداياتي، وتمَّ منعي من الكتابة والسفر بسبب مجموعتي القصصيّة (نساء عند خط الاستواء) التي صدرت عام 1996م. المعوقات الرسميّة في تسعينات القرن الماضي لم تكن تقل شراسة عن المعوقات الاجتماعية التي كانت بذلك الوقت في ذروتها بسبب فتاوى متشددة لرجال دين نجحوا في نشرها على مدى عقود بين كافة شرائح المجتمع!
لقد سبقتُ زماني بأفكاري المستنيرة، فكنتُ أوّل من طالب من خلال مجموعتي القصصيّة بحق المرأة في قيادة السيارة، وحقّها في دخول مجلس الشورى، وحقّها في حضانة أبنائها، وغيرها من القضايا التي كانت تُعاني منها آنذاك المرأة السعوديّة والتي أصبحت اليوم من مخلفات الماضي. هذا الكتاب أعتبره مفخرة لتاريخي، ووثيقة أدبيّة تُثبت بأنني رائدة من رائدات التنوير في بلادي.
أرى بأن المبدعة التي تسبق زمانها، هي امرأة مستهدفة اجتماعيّاً، لأنها دوماً في حالة صدام مع مجتمعها لإصرارها على تغيير مجتمعها نحو الأفضل. المبدعة هي امرأة شجاعة بسبب تطلّعها لإخراج بنات جنسها من جُحر موروثات بالية، ولم تتردد في تقديم نفسها قرباناً، من أجل مستقبلٍ أفضل لهنَّ، وسيظل هذا قدرها إلى أن يُدفن قلمها معها يوم تذهب لمثواها الأخير، هذا إن لم تلتصق بأدبها لعنة الاستهداف، وتظل النظرات المُريبة تُلاحق شخصها إلى ما بعد رحيلها! وقد تكون محظوظة فيتم تكريم اسمها بعد موتها بأبيات نعيٍ رائعة، تشفع لها عندما تقرأها الأجيال المتعاقبة.
************