الأموات لا يعودون!
الأموات لا يعودون!
الأحد 23/10/2011
كثيرون من المناضلين الشرفاء بالعالم محفورة صورهم في ذاكرة التاريخ، ومنهم من دفعوا حياتهم ثمناً لإرساء مطالب شعوبهم المتمثلة في تطبيق مبادئ العدالة الاجتماعيّة وإرساء أسس الديمقراطية في تربة أوطانهم. وكان القس الأميركي الأسود “مارتن لوثر كينج” من أولئك الأبطال حينما سقط قتيلاً على يد متطرف رفض تقبّل فكرة المساواة بين السود والبيض، ورحل في عز شبابه بعمر لم يتجاوز 39 سنة.
قبل ثمانية وأربعين عاماً ألقى كينج خطابه الشهير ” لديّ حلم” وسط مئات الآلاف من مؤيديه. لم يكن يعلم بأنه سيأتي اليوم الذي سيتجسّد حلمه على أرض الواقع وتختار الولايات المتحدة الأميركيّة رجلاً من مواطنيها السود ليُصبح رئيساً لها، ولو علم لحظتها بما يُخبئه القدر لمات قرير العين، وأن حياته لم تذهب سُدى.
مؤخراً قام الرئيس أوباما بتشييد نصب تذكاري للمناضل مارتن لوثر كينج، وتمّ الاحتفاء بذلك في حفل بواشنطن بحضور الرئيس وعائلة كينج ومحبيه، رغم تعرّض أوباما لانتقاد حاد من معارضيه لإصراره على وضع النصب في ساحة حديقة “ناشونال مول” المخصصة فقط لرؤساء الولايات المتحدة الأميركيّة السابقين.
لن أُحصي مناقب مارتن فالجميع يعلمها، وهو ما جعله يستحق جائزة نوبل للسلام بجدارة نتيجة سعيه الدؤوب في الدفاع عن حقوق المواطن الأميركي الأسود الذي كان يُعاني من التمييز العنصري، ومحروماً من أبسط حقوقه بما فيها حقه في التعليم، والسماح له بالاندماج في نسيج المجتمع الأميركي. لقد أردتُ التحدّث هنا عن رواج ثقافة إقصاء إنجازات السابقين في بيئتنا العربية، ممن تركوا خلفهم بصمات بارزة داخل أوطانهم!
في حوار أجرته إحدى الفضائيات العربية مع السيدة جيهان زوجة الرئيس السابق أنور السادات، تحدّثت بمرارة كيف تمّ طمس دور زوجها التاريخي وصاحب القرار الفعلي لحرب أكتوبر، من خلال تجاهل اسمه في الإعلام المصري والإشادة طوال الوقت بالبطل صاحب الضربة الجويّة التي أنهت الحرب لصالح مصر، وكانت تقصد بالطبع مبارك!
تحدّثت السيدة جيهان بمرارة كيف تمّ إزالة صورة زوجها السادات من قاعة “الحزب الوطني” الحاكم الذي تأسس على يديه وقيام النظام بتعليق صورة مبارك مكانها! وكيف طلبت من مبارك بعد مقتل زوجها إقامة نصب للسادات تخليداً لذكراه وأُجيب طلبها بالتجاهل والتبريرات الواهية!
لا أعرف لماذا هذه الروح الشريرة التي تتلبّس الأغلبية من رؤسائنا العرب حينما يصلوا لكراسي الحكم؟! هل هناك أشباح تُلوّح لهذا الرئيس أو ذاك القائد بوجوب تشويه صورة من حكموا قبله حتّى ينعم بالأمان ويحس بالاستقرار؟!
في كل دول العالم المتحضّر يقف رئيس الدولة ويُشيد بأدوار من سبقوه، معلنا بأنه سيكمل المسيرة من أجل رفعة وسلامة وطنه، وهذا يرجع إلى أن البلدان التي تُطبّق أسس الديمقراطية الحقيقيّة هي دول تُديرها مؤسساتها المدنيّة، أما في عالمنا العربي فهي دول أفراد، والقرارات المصيريّة تتم بإشارة من الحاكم أو الرئيس ولا تخضع أيّا منها للمناقشة تحت قبّة البرلمان أو المجلس الاستشاري!
كم أتمنى أن أجد في بلداننا العربية في أيٍ من ميادينها أو شوارعها الرئيسيّة، نصب عظمائنا ومناضلينا، دون أن ترتجف جفون رؤسائنا من هاجس عقيم يُقلق مخادعهم بأن هؤلاء الأموات سيسحبون الكراسي من تحتهم وهم غافلون متناسون بأن الأموات لا يعودون للحياة!
البطولات لا يصنعها أفراد بعينهم بل هي سبحة معقودة يحمل حبّاتها كل جيل ويُسلمها للجيل الذي يأتي من بعده. هكذا تُصنع حضارات الأمم وليس بشيوع قواعد الإقصاء وتشويه إنجازات السابقين!