التطرّف الديني.. وتحجيم الأدب!
التطرّف الديني.. وتحجيم الأدب!
الأحد 11/12/2011
انشغال المثقفين المصريين بأحداث ثورة يناير، لم يُنسيهم الاحتفاء بميلاد الأديب العالمي نجيب محفوظ. هذا الرجل الذي لم يختلف روائيون ومبدعون في العالم بأسره على نبوغه الأدبي، وتأثير أدبه الذي يتسم بالواقعية السحرية على الأجيال التي عاصرته وعلى الأجيال المتعاقبة من الأدباء العرب الذين أصبحوا نجوماً ساطعين في دنيا الأدب اليوم.
جمعية (ائتلاف الثقافة المستقلة)، قررت الاحتفال بمئوية محفوظ على طريقتها الخاصة، بجعل يوم مولده ذكرى سنويّة للسرد المصري العالمي، ودعوة مائة كاتب وروائي لهذه المناسبة، مرفقة بفعاليات ثقافية في كل من القاهرة والإسكندرية والأقصر.
مع صعود التيار السلفي في مصر واكتساحه لاحقاً عدداً كبيراً من مقاعد البرلمان، خرج أحد رموزه البارزين إلى الملأ معلناً حرمانيّة أدب نجيب محفوظ، وأنه أدب ملحد كونه يدعو إلى الابتذال ويحض على الرذيلة. وقد رأى المثقفون في اتهاماته الشاطحة هذه دعوة مبطنة لتحجيم الإبداع الأدبي في مصر.
من يقرأ سيرة نجيب محفوظ يُدرك كم كان هذا الرجل يؤمن بمبادئ التسامح الديني وحق المواطنة للجميع دون تمييز، وهذا كان ظاهراً في أغلبية أعماله الأدبية، وكان يُردد بأن الفضل في تبنّي هذا التوجه يعود إلى أمه التي تعلّم منها احترام كافة الأديان السماوية، والتسامح، ونبذ الطائفيّة، رغم أنها كانت سيدة أميّة لا تقرأ ولا تكتب. كان يحكي كيف كانت تُصادق الراهبات وتدعوهن إلى بيتهم. وكيف تعوّد على مرافقتها في صغره لزيارة الأضرحة والأديرة والمساجد. وكيف استطاعت بتصرفاتها العفويّة وشخصيتها الطيبة إلى غرس هذه النبتة الحضاريّة الخالية من التعصّب العقائدي في أعماقه.
نجيب محفوظ لم يسلم من الهجوم المسلّح، وقد دفع في العقد الأخير من عمره ثمناً باهظاً كاد أن يُزهق حياته على يد متطرف لم يفتح يوماً دفتي كتاب من كتبه ليقرأ بعضاً من سطوره، لكنه انساق خلف فتوى اتهمت محفوظ بالإلحاد بعد نشر كتابه (أولاد حارتنا).
من المعروف أن سيد قطب قبل أن يتحوّل إلى داعية إسلامي، كان ناقداً أدبيّاً وشاعراً له عدة مؤلفات أدبية، بل يُقال بأنه أول من كتب بإعجاب عن أدب محفوظ، وذلك قبل أن يهجر عالم الإبداع ويتحوّل إلى أكبر مروّج للفكر الإسلامي المسلح من خلال كتابه الشهير (معالم على الطريق).
حقيقة أنا حزينة على هذا التطاول في حق كل من كان لهم دور في إنارة دروب الفكر داخل مجتمعاتهم، لإيماني المطلق بأن بوابّة المدنيّة تمر من بوابّة الفكر المستنير وليس من نافذة السلطة ومن فوق منابر المساجد! والأدب الحقيقي لا جنسية له كونه يغوص في أعماق النفس البشرية، ويعكس ما يجري على أرض الواقع ممزوجاً بخيال كاتبه. وعندما يكتب الأديب فهو لا يتعمّد جعل مجتمعه لقمة سائغة تلوكها الألسن! بل يتطلّع إلى رسم لوحة جميلة يتأملها كل عابر سبيل.
على مدى التاريخ لم يُخلّد التاريخ إلا العظماء الذين أثروا مجتمعاتهم، وكل من حرق زرعاً أو عاث فساداً، أو أسهم بقصد في إشاعة أفكار متطرفة داخل مجتمعه، سيبصق عليه التاريخ! والدعوة التي يُطالب بها بعض الإسلاميين المتعصبين في الخفاء بوجوب تحجيم الأدب في مصر، وتغطية وجهه بالبرقع الأسود لن تنجح مهما فعلوا.
بالتأكيد هناك هجوم شرس على الأدب الحر في كافة البلدان العربية نتيجة للمد الديني المتطرّف الذي شاع في العقود الأخيرة، لكن مصر التي أخرجت من رحمها أهم الأدباء والمفكرين لن تقف مكتوفة الأيدي وتدع المتطرفين يُوارون مبدعيهم تحت التراب الإبداع أقوى من كل محاولات الإبادة.