المبدعون… من ينصفهم؟!
المبدعون… من ينصفهم؟!
الأحد 21/6/2009
كنتُ قد دُعيت هذا العام للمشاركة في معرض تونس الدولي للكتاب في دورته السابعة والعشرين، وقد كانت تتخلل المعرض الكثير من النشاطات الأدبية المتنوعة، من لقاءات فكرية إلى أمسيات شعرية، إضافة إلى تكريم الروائي السوداني الراحل الطيّب صالح، والاحتفاء بالذكرى المئوية للشاعر أبي القاسم الشابي، وإحياء الذكرى المئوية لميلاد المبدع التونسي علي الدّعاجي الذي كان كاتباً وشاعراً وزجّالا ورسّاماً وإعلاميّاً.
سألني عدد من المثقفين والمثقفات التونسيات حين تطرّق الأمر للدّعاجي إن كنتُ قد قرأتُ له شيئاً! أجبتُ حينها بالنفي، مبررة عدم إطلاعي إلى ضعف وهشاشة الجسور الثقافية التي تربط أوطاننا العربية ببعضها البعض في التعريف بمبدعيها!
كانت طامة كبرى بالنسبة لي كوني لم اطّلع على شيء من النتاج المتنوّع لهذا الرجل، رغم أنه كان رفيق بيرم التونسي شاعر الزجل المعروف والذي غنّت له المطربة أم كلثوم عددا من قصائده، وكان رجل الشارع حينها يُردد أشعاره الزجلة لبساطتها وقوة معانيها، وكان لها دور كبير في تأجيج مشاعر الشعب ضد الاحتلال البريطاني لمصر إبان تلك الحقبة.
وعودة إلى المبدع علي الدّعاجي فقد حرصت على شراء شيء من نتاجه، وحقيقة فُوجئتُ بحلاوة لغته وعبقريته الأدبية، ولا أبالغ إذا أطلقتُ عليه بكل ثقة لقب تشيكوف العرب. فكما أبدع الأديب الروسي من خلال قصصه في تصوير الواقع المرير الذي كان يحيا فيه الإنسان في روسيا إبان حقبة القياصرة، نجح الدّعاجي كذلك في تصوير حياة الفقر والعوز، وفي خلق مشاهد إنسانيّة تعكس الحياة الاجتماعية في تونس في عصره بأسلوب فني راقٍ، وقد كان هذا جليّاً في مجموعته القصصية “سَهِرتْ منه الليالي”.
شعرت بالحزن حين قرأتُ السيرة الموجزة لحياة هذا الرجل، فقد توفي في ريعان شبابه بعد أن فتك به مرض السل في أحد المستشفيات بقسم العلاج المجاني المكتظ بمئات الفقراء والمعدمين، وكُتب خبر نعيه في ذيل الصفحات بالجرائد اليومية التونسية تحت عنوان “أديب شعبي يموت فريدا”. لم يحضر جنازته سوى عدد قليل لم يتجاوزوا العشرات، بل إن كثيرين لم يعرفوا بخبر وفاته إلا بعد رحيله بشهور! هذا الرجل الفذ والذي ترك خلفه ثروة فكرية كبيرة، ويعد من أهم المبدعين التونسيين الذين تركوا بصمة بارزة في الساحة الثقافية، ومن طلائع المثقفين الذين لعبوا دوراً رياديّاً في رسم ملامح الثقافة التونسية المعاصرة، مات نكراً بعد أن لمس الجحود بيديه من أقرب المقربين!
من المعروف على الأغلب بأن المبدع العربي لا يترك خلفه ثروة ضخمة ولا عقارات، وإنما يترك ثروة فكرية تؤسس لمجتمع متحضّر الرؤيا تنهل منه الأجيال الصاعدة. ولا أعرف حقيقة لماذا في أوطاننا العربية لا يأخذ المبدع حقه في حياته ويتم تكريمه بعد وفاته؟! ولا أدري سبباً واحداً يجعل الإعلام العربي يتهافت لتتبّع أخبار الفنانة أو الفنان الفلاني، والتحدّث عن تفاصيل حياته من زواج وطلاق وحب وهجر دون أن يفكر في إلقاء الضوء على سير المبدعين العرب الذين غيروا أوجه مجتمعاتهم بفكرهم المستنير! ولا أجد تفسيراً مقنعا يجعل إعلامنا العربي يعاف النبش في سير المبدعين العرب ويتجاهل إحياء ذكراهم!
لقد تذكّرتُ وأنا أقرأ خاتمة حياة الدّعاجي المأساوية، حياة الشاعر العراقي بدر شاكر السّياب، الذي مات هو الآخر في أحد مستشفيات الكويت بعد معاناة طويلة مع المرض، وقد كانت الحكومة الكويتية تتكفّل بنفقات علاجه! ومن أمثال الدّعاجي والسّياب كثيرون غيرهما انطفأت حياتهم وهم يحلمون أن يناموا بكبرياء على سرائرهم دون أن تضطرهم ظروفهم إلى تقبّل الصدقات من فاعلي الخير.
هل الإبداع نقمة تُودي بصاحبها إلى قبو النسيان، بمجرد أن يجفَّ مداد قلمه أو يُصيبه داء الشيخوخة؟! هل الإبداع في حد ذاته عشق يقع المبدع في أسره، فيفديه بالغالي والنفيس وإن كان على حساب تأمين مستقبله؟! لماذا المبدع في دول الغرب يعيش في بحبوحة من العيش ولا يقتات على عوائد نتاجه الأدبي كما يحدث للمبدع العربي؟! هل هذا يعود إلى أن المجتمعات الغربية يشبُّ أفرادها على تقدير رموزها بعكس ما يجري على أرضنا العربية، أم أن الفاعل الحقيقي مجهول النسب؟!