وجوب المصالحة مع الغرب!!
وجوب المصالحة مع الغرب!!
الأحد 29/6/2008
كثرت الأقلام التي تتحدّث عن عواقب الانفتاح على الغرب، وتأثيرات العولمة على بصمتنا الثقافية. وارتفعت نغمة التحذيرات بوجوب أن تقف المؤسسات التربوية والتعليمية العربية وقفة رجل واحد، للتصدّي لكل المغريات المشبوهة التي تسعى إلى تغريب مجتمعاتنا، وإسقاط هويتها!
لا أدري لماذا تصر شريحة معينة على التقيّد بهذه النظرة الضيقة، كأننا أمة مستهدفة من كافة كائنات الأرض! ولا أعرف لمَ التشكيك في سلامة مجتمعاتنا العقلية، وأن من السهل بلعها في لقمة واحدة دون ماء! وأن موروثنا الثقافي بكل ضخامته، من الممكن هدم أعمدته بين يوم وليلة، متجاهلة هذه الفئة أنه من المتانة بحيث يصعب إذابته في البحر مهما بلغت درجة عمقه!
صحيح أن ظاهرة الانبهار بكل ما يجيء من الغرب، آخذة في التفشّي بين كافة شرائح المجتمعات العربية وعلى الأخص فئة الشباب، لكن هذا لا يعني أن نُغلق الباب على أنفسنا من الداخل، أو نظلَّ يقظين طوال الليل، خوفاً من تسرّب رائحة غربية إلى خياشيمنا، من تحت أعقاب أبوابنا أو من بين فتحات نوافذنا!
هل موروثنا الثقافي يكفينا مؤونة العمر؟! هل نحن بالفعل قادرون على أن نحيا في هذا العالم منعزلين عن
غيرنا؟ هل يجب أن نُدير وجوهنا، ونُعطي ظهورنا، لكل ما يُقدمه الغرب من إنجازات علمية، إبقاءً على هويتنا؟
استعيد جملة آراء للأديب النوبلي نجيب محفوظ حول علاقة مجتمعاتنا بالثقافة الغربية، حيثُ يرى بأننا يجب أن نكف عن لعنها صباح مساء والتحذير منها، كونها ليست أجنبية الطابع، بل هي حضارة إنسانية قبل كل شيء، وموجهة في مضمونها للعقول والقلوب دون أن تصطفي شعوبا على شعوب أخرى! كما أنها عصارة لتجارب من سبقوها والثمرة الأخيرة في شجرة الحضارات، كالحضارة الفرعونية والآشورية والبابلية والفارسية والإغريقية والرومانية وأخيراً الإسلامية. لذا يؤمن محفوظ بأن الحضارة الغربية هي مثل الشركة المساهمة التي ساهمت كافة الحضارات في صنعها.
نعم، الغرب في الماضي ارتكب أخطاء جسيمة في حقنا، وتسبب في إعاقة نهضتنا بسبب استعماره لأوطاننا العربية عقوداً طويلة، ونهبه لثرواتنا، وإهداره لأرواح كثير من الناس، لكن محفوظ يرى بأن الغرب كفّر عن آثامه بما قدمه لنا من خدمات إنسانية جليلة. فبفضل علومهم المتطورة أنشأت المجتمعات العربية حياتها على أسس منهجية حديثة، وبفضل إنجازاتهم الطبية تمّ إنقاذ ملايين الأرواح التي كانت تفتك بها الأوبئة كل عام. ومن أجل هذه الدوافع، يحثنا نجيب محفوظ على الاعتراف بجميل الحضارة الغربية على أوطاننا، وبوجوب الصفح عمّا اقترفوه في حقنا في الأمس بعقد مصالحة اجتماعية، مؤكداً بأن حاجة مجتمعاتنا إلى الحضارة الغربية الحديثة، لا تقل عن حاجتنا الى التمسّك بقيمنا التراثية الخالدة.
النهل من روافد الغرب لا يُعتبر استهتاراً بهويتنا الثقافية، وليس دليلاً على أننا أمة تستعذب ما يُقدمه لها الغرباء على أطباق من ذهب وفضة، كوننا لم نزل في مرحلة النهل من حضارتهم، فالنظريات الفكرية والفلسفية، والفنون على اختلافها، والعلوم والإنجازات الطبية المبهرة ، جميعها ما زالت ملك أيديهم، وتفصلنا عن حضارتهم قرون طويلة! كما أننا ما زلنا نُجاهد لنجد لنا
مكانا في مصاف الأمم المتقدمة. لذا يوم ننجح في الوصول إلى المرحلة التي يحجُّ فيها الغير إلينا ليقتبسوا من أفكارنا، وينهلوا من علومنا، لحظتها نستطيع أن نسترخي على وسائدنا بسعادة، تاركين الغرباء ينتظرون عند أبوابنا طالبين الإذن بالدخول.
تغذية العقول بروافد العلم، هي الزاد الحقيقي لتقدّم الأمم، وتحرير أمة من الضلال هي البداية لتحطيم قيود تبعيتها لغيرها. من أجل ذلك ليس عيباً أن نُشرّع نوافذنا عن آخرها، ونزيل السدود التي أقمناها عند حدودنا، ونعقد مصالحة حقيقية مع الغرب لا تنعدم منها النوايا الطيبة.
مشكلتنا الحقيقية أننا نستحلي تقريع الآخرين على طول الخط، وذاكرتنا تنشط حين يتعلّق الأمر بتراثنا الفكري، وقيمنا والاجتماعية، لكن حينما نقلّب صفحات تاريخنا، وتقع أبصارنا على نقاط عيوبنا، نكتفي بإطباق جفوننا والعيش على فتات الأمس! كم نحن أمة تعشق ماضيها، وتستحلي حياة الاستعباد لحضارتها التي ولّت مثل غيرها من حضارات العالم!