الفن… هوية مستقلة
الفن… هوية مستقلة
الأحد 3/2/2008
أفلح الفن منذ أن عرفته البشرية في اختراق الحُصون المنيعة. ولم يُوجد على مدار التاريخ شخص، مهما بلغت منزلته من العلو، استطاع أن يمنعه من التحليق في أقاصي السماء، أو ركوب الموج العاتي، أو تسلّق الجبال الوعرة أو الاستلقاء على ظهره في البريّة الشاسعة. وفي كل أنحاء العالم هناك فنانون عظماء سخّروا حياتهم لأجل الفن وجعلوه رسالة سامية لرفعة مجتمعاتهم، ونقشوا أسماءهم بأحرف من ذهب من خلال ما قدموه من فن أصيل استطاع أن يقف شامخاً، رغم مرور عقود على ظهور بعضهم على الساحة الفنية.
الفنانة “فيروز” من الأصوات النادرة في عالمنا العربي، وهناك أجيال شبّت على صوتها، هذا الصوت الذي قال عنه الموسيقار محمد عبد الوهاب “صوت ملائكي ليس له علاقة بالسماء”. فهي التي غنّت “غنّيتُ مكة أهلها الصيد والعيد يملؤ أضلعي عيدا”. وهي التي شدت بأغنيتها “مرّيت بالشوارع شوارع القدس العتيقة”. وأغنيتها الوطنية الشهيرة “بحبك يا لبنان يا وطني بحبك”.
هذا يؤكد بأن الفن الأصيل لا يموت بتعاقب السنين، ولا يندثر بتواري أصحابه تحت الظلال أو برحيلهم عن الدنيا، بل تتوارثه الأجيال، وتردده ألسنة العامة. هو مثل الأشياء النفيسة التي كلما تقادمت ارتفعت أثمانها. وها هو الفنان عبد الحليم حافظ الذي سبق عصره بفنه المميّز، تُقبل الأجيال الشابة على أغانيه كأنه موجود بيننا، بل إن أغانيه الوطنية ما زالت ذائعة الصيت، ولم يفلح فنانو اليوم في إخراج أغنية وطنية واحدة تشبهها وتعيش بين الناس.
في الآونة الأخيرة وقع لغط داخل لبنان وخارجه، حول قبول الفنانة الكبيرة فيروز الغناء في سوريا، وغمز بعض الصحافيين والسياسيين اللبنانيين على زيارتها، ووجهوا عتاباً لها بأنها غضّت الطرف عن النزاع الحاصل بين بلدها لبنان وبين سوريا بعد مقتل الرئيس رفيق الحريري، ومطالبتها لكونها مواطنة لبنانية، رفض الغناء هناك دفاعاً عن كرامة مجتمعها!.
جميعنا بلا شك مع استقلالية كل شبر على أرض لبنان، ونرفض بشدة تدخّل جهات أجنبية أو أيد سوريّة في تحديد مصير هذا البلد الجميل، لكنني حقيقة لا أعرف سبب إقحام الفن في لعبة السياسة التي يعرف الجميع أساليبها الملتوية، وقانونها السائد بأن الغاية تُبرر الوسيلة! ولماذا يُريد البعض إرغام الفن على النزول إلى أرض المعركة والمشاركة في النزال، في ساحة لا يُسمع فيها سوى ضرب السيوف، ورائحة الدماء، والأشلاء الممزقة، والمشادات الكلامية النابية، والاتهامات المتبادلة؟!.
أؤمن بأن الفن ليس له جنسية، ولا ينتمي لبلد، ولا يُعبّر عن حزب معيّن، ولا يتبع طائفة أو مذهبا بعينه، ولا يحمل جواز سفر يُشير لدولة محددة. هو صاحب هوية مستقلة، تُبيح له التنقّل عبر القارات بحرية مطلقة، فلا يقف عند المعابر، ولا يخضع لأي استجوابات بوليسيّة، وله الحق الكامل في أن يتبختر كيفما يُريد، في كل درب وعند كل منعطف وبأي زمان ومكان.
لقد فشل العالم العربي في أن يُصبح يداً واحدةً على الرغم من أنه يتحدّث بلغة واحدة، ويجمعه تاريخ مشترك، بل وأثبتت وقائع التاريخ أن همومه متقاربة تصب في مجرى واحد، وأن جلّ الأنفاق العربية نهايتها ضبابية! في الوقت الذي نفضت أوروبا عن ثوبها أتربة ماضيها، وتعلّمت من سقطات سياسييها، وأخطاء قادتها، ونجحت من خلال الاتحاد الأوروبي في توحيد العملة، وفي إقامة سوق أوروبية مشتركة، وفي إزالة حواجز التنقّل والعمل بلا شروط تعجيزية! وعالمنا العربي لا يتقبّل بعض مثقفيه فكرة عبور فن لبلد آخر، فن أصيل ذنبه أن صاحبته تحمل نوايا طيبة لكل من عشق أغانيها من المحيط إلى الخليج.
ارحموا صرح فيروز المتمثّل في تركتها العظيمة، ويكفي أن الفنون الحقيقية تعيش في وجدان الشعوب، في الوقت الذي تتقلّب مقاعد الحكومات، ويذهب السياسيون بآثامهم إلى غير رجعة!.
الفن الراقي مثل اللوحة النادرة تتوارثها الأجيال لتتعلّم من خطوطها معاني الإنسانية الحقة التي نفتقدها بالتأكيد في هذا العصر السوداوي الصورة!.