المنفى… وطن أم قبر؟!
المنفى… وطن أم قبر؟!
الجمعة 16/2/2007
لو سُئل أي مهاجر حطَّ رحاله بأرض غريبة، ماذا تأخذ معك في حقيبتك؟! لأجاب بعفوية: حفنة من تراب بلادي. وقد عبَّر الشاعر عن قيمة الأوطان بالبيت الشهير: “بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة.. وأهلي وإن ضنّوا عليَّ كرام”. مما يعني أن الأوطان من المستحيل أن يبيعها أهلها في مزادات علنية مهما كانت العروض مغرية!!.
كثيرون ممن اختاروا قرار النزوح عن أراضيهم، لم يقرروا الهجرة ترفاً، ولا بطراً، ولا رغبة في التغيير، ولا تعالياً عليها، وإنما تركوها غصباً بعد أن ضاقت على أجسادهم، باحثين عن أوطان بديلة تفتح لهم أذرعها، وتقدِّم لهم ما ضنّت به عليهم أوطانهم. لكن هل كل بقاع العالم قادرة على احتواء أحلام الغرباء، ومسح دموعهم، والتخفيف عن آلامهم، بعد أن سُدت أمامهم كافة الدروب الآمنة؟!.
التقارير الأخيرة الصادرة عن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، أظهرت أن آلاف العراقيين صاروا يفرون أسبوعيّاً من وطنهم، خوفاً على أنفسهم وأسرهم من “فرق الموت”، ومن العربات المفخخة. هؤلاء الذين ظنّوا أنهم تحرروا من نير الاستعباد، والقمع الفكري، والسياسي، الذي رزخوا تحته عقوداً على يد صدام حسين، وتوهموا أنهم غدوا يستنشقون رحيق الكرامة الإنسانية، فاكتشفوا أن آمالهم تبعثرت تحت جحافل الدبابات الأميريكية.
كلما طالعتُ ما يجري داخل العراق اليوم، ومسلسل القتل اليومي الذي يتعرّض له العراقيون على اختلاف مذاهبهم ودياناتهم، أتساءل.. متى سيتوقف سيل الدم العشوائي، الذي لم يعد يُفرِّق بين صبي وشيخ، وبين امرأة ورجل، حتّى أصبح العراقي يخرج صباحاً إلى عمله، مودعاً أهله، حابساً الشهادة داخل صدره، لا يدري إن كان سيعود آخر النهار لبيته!!.
يقول الروائي الجزائري “واسيني الأعرج” على لسان بطلة روايته ” شرفات بحر الشمال” .. (نحنُ لا نتركُ وطناً إلا لنتزوج قبراً في المنفى). هذه الرواية تتحدّث عمّا لاقاه الجزائريون إبان المجازر التي وقعت في الماضي القريب، واضطرار الكثير من الجزائريين إلى الهرب تحت جنح الظلام، بعد أن أخذت آلة الموت تحصد الجميع، ملقية الرواية الضوء كذلك، على الأفراد الذين يختارون المنافي أوطاناً بديلة، أناس حملوا أحلامهم في جعبتهم واجتازوا بها القفار والبحار، ليرسوا بأحلامهم على أراضٍ لا تضيق بهم ولا بأمانيهم. أناس أرغموا على ترك بلادهم، فراراً من نير الظلم، واستعباد الفقر، ومن فقدان الأمن والاستقرار على أرضهم، خرجوا دون أن يلتفتوا وراءهم، ودون أن يلوحوا لأحبائهم بنظرة وداع أخيرة، فتأتي النتائج وخيمة، حيثُ ينتهي الأمر بموت الكثير منهم على قارعة الطريق وحشر أجسادهم في قبور لا تحمل حتّى أسماءهم أو تشير لهوياتهم.
هل اختيار المنافي، أفضل من الموت بيد قنّاص مهمته القتل بدم بارد؟! أم أن المنافي هي نوع آخر من الموت البطيء المغموس في آبار الحرمان، والحنين إلى أرض الآباء والأجداد؟!.
يُقال إن الأوطان من الممكن أن تتحول إلى سجن كبير، حين تعجز عن احتواء هموم أبنائها، والربت على أكتافهم بحنان. ويُقال إنها تتحول إلى معتقل حديدي، إذا فشلت في تأمين الأمان لشعوبها. فهل بالفعل من الممكن أن تكون أحضان الغرباء أكثر دفئاً من الأوطان الأصلية؟! وهل بلاد الغربة من السهل أن تغض الطرف عن أخطاء المهاجرين إليها، وتتسامح معهم مثلما تفعل مع أبنائها، أم أن الغريب يظل غريباً ولو طال به أمد العيش هناك، ومرت عليه السنون كالأطياف العابرة؟ .!