تراثنا بين الشك واليقين
تراثنا بين الشك واليقين
الأحد 30/7/2007
ما هو التراث؟! هل ذلك الذي يرتبط بتاريخ الشعوب؟! هل يجوز لأي عابر طريق، أن يقتبس منه، أو يمد يده لينتزع قطعة يستر بها بدنه؟! هل إعجابنا بشيء يُبيح لنا نزعه ونسبه لأنفسنا؟! بلا شك تراثنا العربي يزخر بالفنون الجميلة، من فلكلوريات شعبية، إلى رقصات شرقية، إلى ثياب لها طابع مميز، إلى أطعمة شعبية يُقبل عليها أكثرية السائحين الذين يأتون إلى بلداننا العربية، بل ويحرصون على التقاط صور لهم في مطاعمها الشعبية التي تُقدّم أشهر مأكولاتها، المرتبطة بحكاية عن هذه المدينة أو ذاك البلد.
أتذكّر أثناء فترة إقامتي في لندن، كنتُ أتردد كثيراً على مقاهي “ستاربكس” المنتشرة بكثرة فيها، وكنت أشعر بغضب يعتريني كلما لمحت في ثلاجة المأكولات، بعض الساندويتشات المرصوصة والملفوفة في العيش الشامي الرقيق السماكة، وقد كُتب عليها “فلافل إسرائيلية”… قلتُ مرة لصديقتي الإنجليزية بنبرة انفعال وأنا أشير إليها…” أتدرين… لا يُوجد شيء اسمه فلافل إسرائيلية… هذه أكلة مشهورة في بلداننا العربية، وهي في الأصل شامية.” نظرت حينها في وجهي بغرابة وعيناها تنضحان بالشك والريبة، كأنني أقول كلاماً لا يُلامس أرض الواقع، وبما أن البرهان سيد الأدلة لم أعد أفتح أمامها الموضوع مرة أخرى، واكتفيتُ بغض النظر عن هذه الساندويتشات المغبونة كلما دلفتُ إلى المقهى لشراء قهوتي، معبرة عن احتجاجي بمقاطعتها. وكنتُ أذهب إلى شارع العرب الشهير “إدجوارد روود” كلما فشلتُ في مقاومة إغراء أكلها، فأشتريها من أحد المطاعم العربية الكثيرة المتواجدة في هذا الشارع.
ليس هذا فحسب، بل قرأت بأن الإسرائيليين لم يكتفوا بالسطو على التراب الفلسطيني، بل امتدت أيديهم لسرقة أشياء أخرى، حيثُ قام عدد من فنانيهم بتقديم بعض الأثواب الفلسطينية في عروض الأزياء، على أنها تُمثّل جزءا من التراث الإسرائيلي، إضافة إلى الحلي، وبعض الأكلات الفلسطينية التي يشتهر بها المطبخ الفلسطيني.
وفي الأمس القريب، قرأت عن قيام علماء من جامعة “يوتا” الأميركية بتحليل حامض نووي خاص بمومياء طفل مصري قديم من الأسرة الثامنة عشرة، لإثبات نسبه الأوروبي! وهو ما دفع عددا كبيرا من الخبراء المشتغلين بـ”المصريات” وبتاريخ الفراعنة إلى إعلان اعتراضهم ودهشتهم من ربط علاقة مومياء مصرية بالنسب الأوروبي!.
لستُ عالمة آثار، أو مؤرخة، لأجادل فيما ليس من اختصاصي، ولكنني ربطتُ بين فحوى هذا الخبر، وبين واقعة جرت لي مرة مع صديقة أخرى إنجليزية، ونحن نتجول في القسم الخاص بالحضارة الفرعونية في المتحف البريطاني. سألتها… لماذا لا تُعيد الحكومة البريطانية، الآثار الفرعونية المسروقة التي نُهبت إبان حقبة الاستعمار، أجابتني ببرودها الإنجليزي. عزيزتي… نحن قادرون على حماية هذه الآثار، أكثر من المصريين أنفسهم، لو ظلّت هذه الآثار تحت إمرتهم لما بقيت على حالها، محافظة على رونقها الذي تشاهدينه عليها اليوم بأم عينيك.
يرى بعضهم بأن التراث المتمثل في الفنون على مختلف أنواعه بما فيها الأطعمة ليست ملكاً لأحد، ومن ثم لا يجب أن نثير زوبعة مع كل من يقتطف ثمرة من تراثنا، وهذا تبرير خاطئ، لأن التنازل عن التراث وتسليمه إلى الغرباء من منطلق التسامح لا مبرر له، فمن يسرق “فلافل” من السهل أن يسرق زيّا وفنّا وأدباً أيضاً. السرقة سرقة، ولا عيب أن نتذوق تراث غيرنا، وأن نتغنّى به في مجالسنا، لكن الشهامة الأخلاقية تستلزم أن نُشير إلى المصدر من منطلق تقديرنا لممتلكات الآخرين.
“ساندويتشات الفلافل” هي برهان دامغ على عدم قدرة المجتمعات العربية في الدفاع عن تراثها، وهو ما يستلزم إدخال مادة إنسانية في مناهجنا التعليمية، تُعلّم الأجيال القادمة كيف تُحافظ على حقوقها مهما كانت صغيرة الحجم. تُعلمها أن من يبدأ حياته بتنازل بسيط من السهل أن تنزلق قدماه ويُقدّم تنازلات أكبر. مادة تُعلّم الأجيال القادمة كيف تُصبح جسورة، ومتى تفتح صدرها إذا لزم الأمر لتلقي الضربات لكي تحمي هويتها المتمثلة في تراثها الذي صنعه الأجداد بعد كد وتعب.