الكتاب.. البطل المستهدف!!
الكتاب.. البطل المستهدف!!
الأحد 12/8/2007
على مدار الأزمنة ظلَّ الكتاب محاطاً بعيون كثيرة، ترصد حركاته، وتحصي أنفاسه، وتقتفي أثره ليلاً ونهاراً، مع هذا ما زال يقف صامداً أمام قوى الظلام التي تنصب له طوال الوقت المشانق، وتقذف به بلا رحمة في مجرى الأنهار، بل ولا تتوانى عن حرقه في الميادين العامة. مع كل هذا من الصعب أن تُبلى عظام الكتب، فالأفكار النيّرة التي تسعى إلى بناء مجتمعات متحضرة لا يمكن أن تنمحي، بل ويُصبح الطغاة بمختلف مسمياتهم هم القتلة الحقيقيين لاعتبارهم الكتاب عدوهم اللدود الذي يجب سحقه وتدميره!.
الحكمة التي أطلقها الفلاسفة القدامى بأن الكلمة لها وقع أشد من السحر على عقول البشر، هي عبارة صائبة إلى حد كبير، ولذا نجد أن للكتاب وجهين: وجهاً يُساهم في تقدّم الأمم، ووجهاً مغايراً يؤدي إلى وقوعها في مستنقع التطرّف! فلا أحد يُنكر أن نظريات المفكر الفرنسي “جان جاك روسو” كان لها دور كبير في إشعال فتيل التغيير في بلده فرنسا، حين دفعت الفقراء حينها للثورة على واقعهم ورفض الإذعان لمشورة ملكتهم “ماري أنطوانيت” التي اقترحت عليهم أن يأكلوا بسكويت ما داموا لم يجدوا خبزاً! وقد أثبت التاريخ أن الكتاب أكثر وفاء من البشر، حين طمس اسم الإمبراطور الذي أمر بإعدام كتب الفيلسوف كونفوشيوس، وبقيت تعاليم هذا الفيلسوف تعيش بين الصينيين إلى اليوم.
في عالمنا العربي الكثير من القصص المأساوية التي راحت ضحيتها كتب قيمة لعلماء كان لهم دور فعّال في ازدهار الحضارة الإسلامية، وقد أُعدم بعضها على أيدي الغزاة، والبعض الآخر تمَّ تمزيقه وحرقه على أيدي حكّام تلك العصور، لتهيبهم من مضمونها، أوتأييدهم للدعاوى التي أطلقتها الجماعات التكفيرية ضد أصحاب هذه الكتب والتشكيك في نزاهة أفكارهم!.
معركة المجتمعات مع الكتب بدأت منذ أن عرف الإنسان كيف يَنسج الكلمات، ثم اكتشف مع مرور الوقت قوة تأثيرها على مسار الشعوب، مما حفّز العقول المتحجرة إلى إحكام السياج من حولها!.
تنقل إلينا وسائل الإعلام المختلفة مظاهرات تحدث في أماكن متفرقة من العالمين العربي والإسلامي، يخرج فيها الناس إلى الشوارع مطالبين بمصادرة رواية أو ديوان شعر أو كتاب فكري، كما حدث منذ سنوات مع رواية “وليمة لأعشاب البحر” للروائي حيدر حيدر، حين قام طلاّب من جامعة الأزهر في مصر بالتنديد بطباعة الرواية في مصر، وأن بها نصوصاً إباحية. وكما حدث منذ أيام في باكستان حيثُ خرج المئات وقاموا بحرق كتب مع أقراص “سي دي” و”دي. في. دي” يزعمون أن محتواها يتعارض مع التعاليم الإسلامية.
اللافت في الأمر أن أغلبية مؤسساتنا الدينية والتربوية، تصب جام غضبها على الكتب الأدبية، وتُدقق في كل كلمة، وتحاول أن تستنبط ماذا يُوحي هذا السطر، أو تلك العبارة حتّى تُمسك بها متلبسة ويُقام عليها الحد! في الوقت الذي تعجُّ الأرصفة بمئات من الكتب الدينية المكتوبة بأيدي علماء دين وفقهاء متطرفين، تحمل بين طياتها أفكاراً هدامة، وفتاوى تكفيرية ترفض مبدأ التعايش المشترك، وتُجيز قتل غير المسلم، بل إن بعضها وصل به الغلو إلى إباحة قتل أصحاب المذاهب الأخرى المخالفة! وأذكر على سبيل المثال كتاب “معالم على الطريق” الذي كان من أوائل الكتب التي حرّضت على العنف، واستباحة فكر الجهاد دون تقنين له، مع هذا يحظى بمباركة اجتماعية!.
إنها ازدواجية في التعامل مع منابع الفكر، والتي أجازتها للأسف بعض الحكومات العربية من منطلق أنها ما دامت لا تتعرض هذه الكتب لسياساتها، ولا تدعو إلى مُحاربة أنظمتها، ولا تُحرّض عليها، وتدعها تعيش آمنة في بروجها العاجية، فليس مهماً إن أدت إلى تسويق فكرها المتطرف بين جيل الشباب!.
لمَ لا نسأل أنفسنا لماذا لا يوجد غلو ديني في دولة مثل ماليزيا التي يقوم مجتمعها على أعراق وأديان متباينة؟! أليس التأمل الممزوج بالبحث والتنقيب في تجارب غيرنا التي تتسم بالعقلانية، يجعلنا أكثر قدرة على لجم موجة العنف التي انتشرت مثل النار في الهشيم في أغلبية مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟! وماذا عن مناهجنا التعليمية؟! هذا حديث آخر!.