أقنعة الازدواجية
أقنعة الازدواجية
الأحد 23/9/2007
تعودتُ عندما أحطُّ بقدميَّ أرضاً جديدة، أن أتسكّع بين أسواقها واشتري تذكاراً بسيطاً يحمل طابعها. منذ عدة سنوات سافرتُ إلى مدينة “فينيسيا” الإيطالية التي أطلق عليها العرب في الماضي لقب مدينة البندقية، وقد قمتُ بشراء واحد من الأقنعة الزاهية الألوان التي تشتهر بها هذه المدينة الساحرة والمعبرة عن جزء من تراثها.
كلما وقع نظري على هذه التحفة التذكاريّة في بيتي، حضرت في ذهني آفة الازدواجية المغروسة في تربة مجتمعاتنا، والتي تحقنها الأسر العربية تحت جلود أطفالها منذ لحظة ولادتهم! ويتجرعها الصغار على مقاعد الدراسة منذ اللحظات الأولى وحتّى ساعة تخرّجهم من مدرجاتها، لتُصبح مع الوقت لصيقة بشخصياتهم وجزءا لا يتجزأ من منهاج حياتهم!.
يشبُّ المرء العربي، وقد تعوّد على استخدام عدة أقنعة يحتفظ بها في جيبه. فهناك القناع الذي يضعه حين يهم بالدخول إلى بيته، وهناك القناع الذي يستخدمه في الشارع مع الناس، وهناك القناع الذي يضعه حين يُقابل مسؤولا، وقناع أخير مبهرج يُجيد استخدامه عند الأزمات المفاجئة، إلى أن يلتبس عليه الأمر في النهاية ويجد شخصيته الحقيقية قد ذابت وسط هذا الكم من الوجوه المتقلبة حسب الظرف والوقت والزمان!.
يستهويني أدب السير الذاتية للمفكرين والأدباء والسياسيين. أحبُّ أخذ عِبَر ودروس حيّة من عظماء التاريخ الذين تركوا بصمات بارزة في مجتمعاتهم. أن المس من خلال ملاحقتي للسطور المكتوبة بشفافية وصدق، منزلقاتهم وأخطاءهم وكبواتهم. أن أتأمل حياة كل فرد منهم الزاخرة بالأحزان والأفراح والنجاحات والإخفاقات، من خلال رحلات بحرية جميلة يقودني فيها كل ربّان بسيرته إلى أعماق النفس البشرية.
الشيء الملفت في أدب السيرة الذاتية بعالمنا العربي، أنه لم يصل للمكانة التي حققها هذا الجنس الأدبي في الغرب، حيث أن قاعدة العيب والحرام، ومبدأ التحذير من كشف العورات، واعتبارات الأسرة والتقاليد والأعراف، ما زالت اللغة الدارجة في مجتمعاتنا العربية.
كما أن الشخصية العربية التي جبلت على التعامل مع وقائع حياتها بازدواجية شديدة، جعلت هذا النوع من الأدب يسير بخفين ممزقين يمنعان صاحبهما من السير فوق الأشواك، وتجعلانه غير قادر على مواجهة ردود أفعال المجتمع مهما بلغت مساحة شجاعته! وكم من مثقفين على مختلف توجهاتهم واختصاصاتهم، قصموا أقلامهم، وقننوا ذكرياتهم، إذا ما وصلت إلى منطقة محظورة توجسا من القيل والقال، بل وتمادى بعض منهم بدفنها في أقبية مهجورة حتّى لا تطولها الأيدي!.
هذا الأمر ينطبق أيضاً على حيوات الفنانين والأدباء والمفكرين الذين يتم تحويل سيرهم إلى مسلسلات تليفزيونية. وفي الأعوام الأخيرة تمَّ عرض عدد منها على شاشة التلفاز ونالت نجاحاً منقطع النظير، على الرغم من أن مخرجي هذه المسلسلات حوّلوا أبطالها إلى قديسين لا يخطئون وليس لهم زلات ولا منزلقات!.
في الغرب هناك أفلام عديدة تحدثت عن شخصيات عالمية مشهورة، حصدت جوائز فنية عالية المستوى. وعلى سبيل المثال لا الحصر هذا ما يلمسه المرء في فيلم “بتهوفن” الموسيقار الألماني العبقري الذي ذاع صيته في الآفاق، وكيف حرص مخرج الفيلم على إظهار صفات “بتهوفن” السلبية، وتأثير الصمم على حياته الاجتماعية، الذي جعله غريب الأطوار، قاسي القلب مع أقرب الناس إليه.
مشكلة مجتمعاتنا العربية أنها تنبهر بعظمائها شريطة أن تكون صفحاتهم بيضاء لا تشوبها شائبة! وقاسية في تطبيق أحكامها الجائرة على كل رموزها الذين يكشفون عوراتهم على الملأ، متجاهلة حجم العطاءات التي قدموها وتركوها من خلفهم.
لقد قلتُ في البداية إن الازدواجية التي يتربى عليها الفرد العربي منذ نعومة أظافره، هي التي تجعله يرفض رفضاً قاطعاً تعرية وجهه أمام الآخرين، وعلى مداراة سقطاته، وإخفاء الكدمات التي تركتها على نفسه، لذا من الصعب بمكان أن ينجح أدب السيرة الذاتية في مجتمعاتنا!.
أنا لستُ في موضع رفع عصا التقريع في وجوه كاتبي سيرهم الذاتية، أو توجيه اللوم للمخرجين الذين يتولون إخراج هذه النوعية من الأعمال، فالإنسان ابن مجتمعه، ولا يمكن أن ينفصل بسهولة عن بيئته. كما أن الموج العالي في بعض الأحيان يُعيق امهر السباحين عن الوصول إلى الشاطئ بسلام! إن الأمر يستلزم سنوات لا تحصى لإخراج المجتمعات العربية من دائرة الازدواجية التي ما زالت تُعتبر برهانا دامغا لكل من رفع عقيرته قائلا بأن سيرته أنصع بياضاً من الجميع!