﴿ ملتقى المرأة والكتابة ﴾
حكايتي مع الحرف
15-16-17 / يوليو 2004
المغرب/ آسفي
كانت جدتي لأبي أول مخلوق فتح أمامي آفاق الخيال القصصي، كانت تمتاز بشخصية صارمة، وذات شكيمة قوية، لكنها على الجانب الآخر كانت تتمتع بحس فكاهي، وميل كبير للدعابة، تعودت أنا وإخوتي بعد صلاة العصر في عطلتنا الأسبوعية، الذهاب إلى ملحقها الذي بناه لها أبي في ركن من البيت، فكانت تجلسنا حولها في دائرة بالشرفة الأرضية التي تطل على الحديقة، وتقص علينا حكايات الشاطر حسن، وعلي بابا والأربعين حرامي، وقصة “أمنا الغول” وتقوم بتجسيد المشهد بإخراج طاقم أسنانها في وجوهنا وتُضخّم صوتها فنصرخ هلعاً ونتشبث ببعضنا البعض، لكن ما أن يزول تأثير الخوف منا حتّـى ننفجر في الضحك ونتوسل إليها أن تُسرد علينا المزيد من الحكايات .
***
كانت جدتي تهوى سماع الأغاني القديمة وتحتفظ بجهاز “بيك أب” قديم من النوع الذي تدار فيه الأسطوانات الكبيرة، فكنت ألِّـحُ عليها أن تسمح لي بتشغيل الجهاز لأستمع لأغاني فريد الأطرش وصباح وعبد الحليم حافظ وغيرهم، ومن الأشياء التي ندمت عليها عدم احتفاظي بهذا الجهاز الأثري الذي لا أدري أين آل مصيره بعد موت جدتي. كما كانت تحتفظ بصندوق خشبي كبير، يحتوي على ثيابها التي كانت ترتديها في الأعياد والمناسبات العائلية والأعراس، حيث كان للسيدات المسنات في مجتمع الحجاز زي خاص يتميزّن به، مثل “الصديرية” التي تلبس بالجذع العلوي وهي محاكة من قماش الكتان الأبيض وتُقفل من الأمام بمجموعة من الأزارير الذهبية، أما الجذع السفلي فيغطى بقماش قطني سميك مزركش الألوان، يلف حول الجسد بالإضافة إلى وشاح من القماش الشفاف لتغطية شعر الرأس يسمى “المحرمة” يُمسك بمشابك جميلة مُثبت في أعلاها حبات من اللؤلؤ الأبيض، كانت السيدات العجائز يستخدمونها لتثبيت الوشاح حتّـى لا ينسدل عن رؤوسهن.
***
في أول أيام العيد كانت جدتي تحرص على ارتداء هذا الزي وتستقبل به أبناءها وأقاربها الذين يحرصون على زيارتها لتهنئتها بقدوم العيد.كنتُ أنظر إليها بإعجاب وانبهار بطلعتها، كانت على الرغم من عمرها الذي تجاوز الستين إلا أنها كانت تمشي بقامة مرفوعة وخطوات ثابتة في تحدٍ عنيد لشيخوختها، وهـو ما كان يدفعني إلى مغافلتها أحيانا والتسلل لغرفتها وهي نائمة والعبث في حاجاتها، كان الفضول يتملكني إلى تقليدها فألبس واحدة من هذه “الصديريات” وأقف أمام المرآة، وأرفع أطراف أصابع قدمي، وأمدُّ قفص صدري إلى الأمام في محاولة لتقليد خطواتها وتصبح هيئتي لحظتها مثل مهرجي السيرك في هذه الثياب الفضفاضة التي لا تتوافق مع بنيتي الضئيلة.كان حظي العاثر يوقعني أحيانا معها فتستيقظ من نومها وتضبطني بالجرم المشهود وتقوم بتوبيخي على فعلتي متوعدةً إيايَّ بأنها ستحرمني من سماع قصصها، وكان هذا بالنسبة لي يُـشكّل عقاباً قاسياً، فأستسمحها وأعدها بأنني لن أعود لهذا الفعل مرةً ثانيةً ثم أقومُ بطبع قبلة على يديها وقبلة على جبينها، فتضحك وتنظر في وجهي بحنان، لكن ما أن تمر أيام على هذه الواقعة حتّـى أنسى وعدي لها وأكرر فعلتي.
***
عندما ماتت جدتي بكيت كثيرا عليها، على الرغم من أنها كفت عن سرد الحكايات بعد أن جرفتها دوامة أمراض الشيخوخة، لكنها ظلت تعني لي الكثير، كانت معلمتي الأولى في تعليمي فن القصص وقد أخذت عن جدتي قوة المراس، والقدرة على المواجهة، وتحدي الصعاب. فقدت جدتي زوجها وهي ما زالت شابة صغيرة، ترك لها ستة أبناء صغار، في بلد كان أهلها يحيون حياة قاسية بعيدة كل البعد عن حياة الترف، ويعانون من شظف العيش قبل اكتشاف النفط، لكن بجلادتها استطاعت أن تدير دفة بيتها وترعى أبناءها، قسّمت بينهم الأعمال، كانوا بعد عودتهم من المدرسة يقوم أحدهم بجلب الماء من “الكنداسة” المصدر الوحيد للشرب حيث كان السقا يحضر للبيت مرتين في الأسبوع وكان الماء الذي يحمله مخصص فقط لتنظيف البيت، وآخر يشتري لوازم البيت أما الأبناء الكبار فكانوا يعملون في متجر عمهم لكي يوفروا دخلا مادياً للأسرة.
***
كان أبي يأخذنا في ليالي رمضان من كل عام إلى السوق ليشتري لنا ملابس العيد حيث تظل الأسواق مفتوحةً إلى ساعاتٍ متأخرةٍ، كان يشير بيده ونحن نمر بالسيارة عبر أحياء جدة القديمة التي تغيّرت الكثير من مبانيها الشعبية، قائلا بنبرة حزينة.. هنا الحي الذي ولدت وتربيت فيه وقضيت به شطرا من شبابي. متابعا.. رحم الله تلك الأيام الجميلة على الرغم من ضنكها.
***
حكى لي أبي بأن جدتي لم تنتقل إلى العيش في بيتنا إلا بعد محاولات مستميتة من أبي وأعمامي، شخصيتها الأبيّة جعلتها تتشبث بحقها في البقاء ببيتها، حتّـى رضخت في النهاية لمطلبهم بعد أن أقنعوها بأنه سيكون لها جناح مستقل.
هذه الحياة الصعبة التي عاشتها جدتي الأميَّة مع أبنائها والتي حكى لي أبي جوانباً منها، علمتني أن الحياة بقدر ما تأخذ من الإنسان بقدر ما تزيده صلابة إذا استطاع التكيّـف مع ظروفه، وأطلعتني على جانب خفي من حياة المرأة السعودية، في أنها قادرة على التأقلم مع وضعها ومواجهة واقعها ببسالة إذا استلزمت الظروف منها ذلك، وأن ما يتردد اليوم بوجوب محاصرة المرأة وتقييد حركتها وتدجين شخصيتها ما هي إلا محاولات جائرة للتقليل من قدراتها الحقيقية.
***
عامل أساسي آخر ساهم في تخصيب خيالي وهو مسقط رأس أمي حيث تعود أصولها إلى قرية بالريف المصري. كنتُ أعد الأيام والأسابيع لأسافر إلى القاهرة، وهناك كانت أمي تصحبني أنا وأخوتي لزيارة أقاربها ببلدتها الصغيرة، فكنتُ أهرع إلى الحقول وأختار شجرة ضخمة بظلال وارفة وأسند ظهري الصغير عليها وأمد ساقي لأستمتع برؤية الفلاحين البسطاء وهم يفلحون أرضهم، وأمتع ناظري بمجرى نهر النيل، وألاحق بعيني الفلاحات وهن يرفعن أطراف جلابيبهن ليقمن بغسل ملابسهن وأشيائهن عند حافة النهر. وفي المساء كنا نتسامر أنا وإخوتي مع أقاربنا بالجلوس في حلقة كبيرة عند شاطئ النهر إلى ساعات متأخرة، وأستمع لأحاديثهم المشوقة عن حكايات الأشباح التي تطوف بالقرية في الليالي الحالكة الظلمة، كان ضوء القمر يعكس ظلاله على الوجوه مما يعطي للأحاديث الدائرة متعة خاصة، لا يخترقها إلا صوت نقيق الضفادع الصادر من بركة الماء الراكدة، القائمة عند أطراف القرية. هذه المشاهد ساهمت في تخصيب فكري، وفي إمدادي مستقبلا بمادة ثرية للكتابة، وفتحت أمام عيني مجالا رحبا للتأمل، ولرؤية جوانب مضيئة للإنسان الكادح في الحياة، الذي يُـطلقُ لصوته العنان بالغناء وهو يفلح أرضه، ثم يعود عند الغروب إلى أسرته، تعلمتُ من هذه الصور العفوية أن في الدنيا مقومات عديدة للسعادة.
***
منذ سنوات لم أعد أذهب إلى بلدة أمي فقد سمعت بأن الكهرباء قد دخلتها وأن الكثير من المباني الطينية قد تحولت إلى مبانٍ أسمنتية، وهو ما جعل نفسي تعافها فقد فقدت من وجهة نظري أبرز ملامح جمالها بعد أن خلعت ثوبها الريفي ولبست ملابس عصرية ولطّـخت وجهها بالمساحيق الفاقعة الألوان!!.
***
عندما دلفت لعالم الأنوثة هرعت فرحة إلى أمي أخبرها بأن العادة الشهرية قد صارت تأتيني مثلها، أخذتني في حضنها وقبلتني، كان هذا يعني بأنني سأضع المساحيق على وجهي، وألبس حذاء بكعب عالٍ، نمتُ ليلتها وأنا أحلم بولوج هذا العالم الجديد. فوجئت بها في اليوم التالي تُـقدّم لي عباءةً سوداء وتطلب مني أن أرتديها عند خروجي من المنزل، سألتها.. لماذا؟! ما السبب؟! قالت.. لقد أصبحت عروسا. عدت إلى سؤالها.. أين العريس يا أمي؟! ابتسمت معلقة.. بالتأكيد سيأتي يوما. أخذت العباءة وحشرتها في دولابي وداهمتني لحظتها فكرة مجنونة قمتُ بتنفيذها فورا، بالخروج من البيت بدونـها، همست الخادمة في أذن أمي بفعلتي، ألفيتها تهرع نحوي، صارخة في وجهي، مهددة بأنها ستخبر أبي بما اقترفته من جُـرم، وتابعت قائلة بنبرةٍ غاضبةٍ.. هل تريدين أن تلوكَ سمعتنا الألسن؟! دخلت إلى غرفتي وسألت نفسي.. ماذا يمكن أن يتقوّل الناس علـي إذا لم ألبس العباءة؟! هل سيمتنع العريس عن خطبتي؟! هل.. وهل.. وهل؟! مع مرور الوقت أدركت بأن الكثير من موروثاتنا الاجتماعية لا تمت لشريعتنا الإسلامية بصلة، لكنها أصبحت من المسلمات مع تعاقب الأزمنة، وأن من الصعب على أي فرد في مجتمعنا أن يخرج من قوقعة الأعراف دون أن تُـلقى عليه الحجارة ويُـنعت بأبشع التهم.
***
يُـقال بأن الإنسان كلما ابتعد عن منطقة طفولته كلما التحم بأحداثها أكثر، وبدأت مشاهدها تلاحقه في ساعات نهاره وليله، لقد شكّلت هذه الحادثة أول بوادر الثورة في أعماقي على الكثير من العادات التي تشربتها في طفولتي، وهو ما دفعني إلى مواجهتها في مرحلة نضجي عندما أصبح لي حيز في عالم الكتابة، حيث بدأت الكثير من علامات الاستفهام تتحول إلى أحرف نارية تتفجّـر على الورق.
***
الحديث عن المرأة في بلادي كان في الماضي منطقة محرمة محظور على أي أحد الاقتراب منها، وهذا يعود إلى اعتقاد الكثيرين بأن فتح باب النقاش حول شئون المرأة سيؤدي إلى انفراط سبحة الأخلاق، وإلى حدوث زلزال في أرضية المجتمع السعودي، مما جعل اقتحام هذه الرقعة هو التهور بعينه، لكن في ظل التغيرات الحاصلة في العالم اليوم، ظهر مؤخرا انفراج في أوضاع المرأة السعودية.
أنا سعيدة بهذه التغيرات حتّـى وإن كانت طفيفة فأول الغيث قطرة كما يُـقال، لكن يجب الاعتراف أيضا بأن الطريق أمام المرأة السعودية ما زال طويلا، فالمجتمع يُـصرُّ على معاملة المرأة كمخلوق ناقص الأهلية يجب فرض الوصاية عليه؟! فالمرأة ممنوع أن تسافر خارج الوطن إلا بإذن من ولي أمرها، واختيار طريق مستقبلها التعليمي من المدرسة إلى الجامعة مرهون بموافقة ولي أمرها، والبطاقة الشخصية وجواز السفر لا يحق لها أن تستخرجهما إلا بخطاب من ولي الأمر، وهناك الكثير من الوظائف ما زالت مقتصرة على الرجل دون المرأة بحجة الخوف من أن يؤدي هذا التسامح الفكري إلى تفسّخ اجتماعي!! بجانب أنها محرومة من قيادة السيارة في الوقت التي يسمح لها بالركوب مع سائق غريب عنها بمفردها، كما أن الإعلام بقنواته المتباينة يُـديره الرجل، فإذا نظرنا إلى الصحافة المكتوبة سنجد بأن الصحافية السعودية بعيدة عن موقع القرار، فلم تتبوأ صحافية رئاسة تحرير أي صحيفة محلية بالرغم من نجاح عدد منهن في الخارج، أما دور مديرات التحرير الذي حصلت عليه بعضهن فهو منصب صوري لا تملك صاحبته الصلاحية في تغيير موقع إعلان بالصحيفة التي تعمل بها!! فإذا انتقلنا إلى الإعلام المسموع والمرئي، نجد أن المذيعات مقيدات ببرامج معينة ويتم التعاقد معهن بأجورٍ زهيدةٍ، وليس ضمن الكادر الوظيفي أسوة بالرجال، مما يؤكد بأن مجتمعنا السعودي، مجتمعاً ذكورياً خالصاً. هذه الوقائع أدت إلى تقييد حركة المرأة واضطرارها إلى الوقوف في آخر الصفوف حتّـى يمـنَّ الرجل عليها ويفتح أمامها السبل المغلقة، وكم يكون حظ المرأة عاثراً لو وقعت في يد ولي أمرٍ قاسٍ لا يرحمها مستغلا الصلاحيات الممنوحة له ليلعب بمصيرها حسب أهوائه، هادماً قصورَ أحلامها من منطلق أنه الوصي عليها والساهر على راحتها، وهو ما يقودها في نهاية المطاف إلى رفع رايةِ الاستسلام والانصياع الكلي.
***
عندما دخلتُ معترك الأدب، سخّرت قلمي لإلقاء الضوء على السلبيات التي تعيق حركة المرأة في بلادي، وناديت من خلال كتاباتي بفك القيود الموضوعة عليها، ودافعت عن حقوقها المسلوبة، لإيماني بأن قضية المرأة لا تنفصل عراها عن قضايا المجتمع الكبرى إن لم تكن أهمها، فقد منحني البيت الذي نشأت فيه الاستقلالية في الرأي، وعلمني معنى الحرية المسؤولة، وهو ما جعلني أعلن رفضي بقاء المرأة نصفا مشلولا داخل مجتمعي. هذا المسلك الذي انتهجته منذ البداية جعل دربي محفوفا بالمخاطر والمنزلقات والفواجع النفسية، لكن على الجانب الآخر قـوّى من عزيمتي وزادني صلابة.
أتذكّـر واقعة قرأتها عن الشاعر نزار قباني، أنه عندما كتب “دفاتر النكسة” قامت حملة مسعورة عليه ومُنعت كتبه من دخول مصر، كتب عندها رسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر يقول له فيها”.. لم يكن بوسعي أن أقف أمام جسد أمتي المريض أعالجه بالأدعية والأحجبة، فالذي يحب أمته يُـطهّـر جراحها ويكوي إذا لزم الأمر المناطق المصابة بالنار..”.
***
قلت لابنتي.. يوما ما ستتزوجين وستأتيك ابنتك من المدرسة فرحة وهي تلوّح بكتاب الأدب قائلة لك بنبرة فرحة.. اليوم درسنا نصا لجدتي. نعم إلى اليوم لا يُـدرَّس أدب المرأة السعودية في المدارس ولا الجامعات، مع أن حضارة كل أمة تبدأ بتدوين نتاج فكر أدبائها ومفكريها رجالا ونساء، لتكون مرجعا للأجيال القادمة.
***
نعم.. لقد عرضتني أفكاري للكثير من المشاكل، وهاجمتني شرائح متباينة من مجتمعي، ودفعتُ يوما ثمن جرأتي في هذا العالم الذي اخترته بكامل إرادتي، لكنني لم ولن أندم يوما على اختياراتي. بكيت !! نعم.. ألقيت بأوراقي وأقلامي في سلة المهملات!! نعم. قررت الانزواء بعيدا!! نعم. لكن دوما كان هناك صوت بداخلي يحثني أن أعاود الوقوف وأصمد لأقاوم كل المعاول التي تريد هدم كياني الذي أسسته على مدى سنواتٍ، وأنا واثقة بأن القضية ستحسم لصالح المرأة في المستقبل، وأن التغيير قادم لا محالة، فمن المستحيل أن تتوقف عجلة الزمن، لكن ما يحزنني أحيانا بأنني لن أرى هذا اليوم لكنني أعود فأهدأ لأن الأجيال القادمة ستقطف ثمار هذه المحاولات التي تشع مني ومن غيري من الكاتبات اللواتي دخلن ساحات الوغى بشجاعة وبإيمان راسخ بمطالبهن. لذا لم يعد يهمني أن أكون ضحيةً، فلم أكن أول الضحايا، ولن أكون آخرهن، يكفيني أن تتبنى فكري أجيالُ الغدِ بدلاً من أن تُـلقى كلماتي للجرذان أو القطط الشاردة. أريد أن أدخل التاريخ بملابس ناصعة وأن يُـشار إلى قبري ويُـقال.. هنا ترقد امرأة ساهمت يوما في دفع مجتمعها نحو حياةٍ أفضل.. إمرأة رفضت أن تعيشَ في الظلال، وقررت أن تمشي تحت وهج الشمس، فأحيانا الحرارة العالية تحمي الإنسان من الصقيع الرابض في أعماقه.