مُثقفون تحت المجهر!!
مُثقفون تحت المجهر!!
الأحد 9/8/2009
هل قدر المثقف العربي أن يُوضع طوال الوقت في قفص الاتهام، ويُحاكم كمجرم مُحترف، مع المطالبة بوجوب تطبيق أقسى أنواع العقوبة عليه؟! هل محكوم على المفكر العربي أن يُرشق دون رحمة أو شفقة، بسهام الريبة والشك من أفراد مجتمعه؟! لماذا تصرُّ شرائح متزمتة على ملاحقة المثقف، والتشكيك في نصاعة هدفه، ونعته بأبشع الصفات الآدمية؟! هل قدر المثقف العربي في عصرنا الحالي أن يحمل روحه على كفه، كنتيجة حتمية للمناخ السائد القائم على الانغلاق الفكري، والتراجع الثقافي؟! هل ما يجري من مواقف متشددة، وأحكام جائرة، مقتصرة على مثقفي الحقبة التي نعيشها، أم أن المتنورين العرب والمسلمين دفعوا أثماناً باهظة على مدار التاريخ الإنساني، نتيجة لخروجهم عن النمط السائد في عصرهم؟! لماذا أصبح المثقف العربي موضوع تحت المجهر، وارتفعت أصوات الإدانة فيما يقوله أو يقوم به؟!
المفكر العربي المعروف “سيد القمني”، وهو أكاديمي متخصص في تاريخ الاجتماع الديني، يُواجه حملة شرسة من المتشددين، وقد اتهمه هؤلاء بالارتداد والكفر بعد أن ذاع نبأ حصوله على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، مطالبين بوجوب سحب الجائزة منه بدعوى إساءته للإسلام والترويج للفكر العلماني من خلال أعماله النقدية التي تناول فيها بجرأة التاريخ الإسلامي.
لقد كتب المفكر المصري نداء يقول فيه “أهيب بضمير الإنسانية الحر في كل العالم أن يهبَّ لنجدتي أنا وأولادي بالمساندة المعنوية، والتنديد بالفكر الراديكالي، مع تقديم حلول سريعة لإنقاذنا من الخطر الذي يُحدّق بنا”.
معاناة القمني ليست الوحيدة، فمسلسل تكفير المثقفين واتهامهم بالردة أصبحت عادة مُشاعة، وفيها دعوة مبطنة لإهدار دمهم على أيدي متطرّفين في فكرهم! وهو ما يدعو حقيقة إلى وجوب السعي بجديّة إلى الحد من الحسبة الدينية التي بات يستخدمها كل من هبَّ ودب، وكل من أطلق لحيته وقصّر ثوبه وحفظ بعض الآيات القرآنية، معلناً نفسه داعية مهمته قيادة الناس إلى طريق الهداية المؤدية إلى الجنة!
تكفير المثقفين اليوم على اختلاف مذاهبهم أو عقائدهم أو توجههم الفكري هو ضربة في صميم حرية التعبير، وفيها دعوة مبطنة للحجر على العقل الذي يميّز الإنسان عن سائر المخلوقات! كما أن كتم أصوات المفكرين سيؤدي إلى المزيد من التقوقع والانغلاق والعودة إلى الجحور المظلمة، بل سيؤدي كذلك إلى القضاء على الأصوات النزيهة المطالبة بتطبيق مبادئ الحق والعدل والحرية!
لقد عادت بي الذكرى إلى حادثة مقتل الكاتب فرج فودة الذي قُتل برصاص متطرّف متشدد في التسعينات من القرن الماضي، حين كانت الجماعات الدينية المتشددة بمصر في أوج قوتها. وقد كانت الفتوى التي خرجت وقتها عن ارتداده وتكفيره سبباً مباشراً لقتله. ولم يكن فودة الضحية الأولى والأخيرة، فهناك المفكر نصر حامد أبو زيد الذي تمَّ التفريق بينه وبين زوجته على أساس أنه مرتد، مما دعاه إلى الخروج من بلده والعيش في المنفى إلى اليوم. ولا ننسى الفتوى التي خرجت في وقت سابق في حق الكاتبة نوال السعداوي.
الأمم لا تتحضّر ولا تتقدّم إلا من خلال أفكار يطرحها مفكروها وعلماؤها من أجل خدمة مجتمعاتهم، ولو توقفوا عن خلق رؤى جديدة لتنمية مجتمعاتهم، سينتهي الأمر بالمجتمعات إلى التقوقع والتقهقر وإلى توقّف عجلة مسيرتها.
إن أوروبا لم تخرج من عزلتها التي فرضتها على نفسها إبان عصور الظلام، إلا عندما حجّمت دور الكنيسة التي كانت تمنح صكوك الغفران لمن يُعلن الولاء لها، وتقوم بتكفير الناس الذين يُعارضون أفكارها وتتهمهم بالزندقة وحرقهم في ميادين عامة.
إن سيطرة المتشددين على الساحة الاجتماعية في بلادنا العربية، سيؤدي إلى عزلنا تدريجيّا عن العالم من حولنا، وإلى إعلان بلادنا مناطق موبوءة فكريّاً واجتماعيّاً! وهو ما يستلزم وقفة جادة من قبل المؤسسات الحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني، والتكاتف لمحاربة الفكر المتشدد، وتوعية الناس عن طريق وسائل الإعلام، وحثهم على استخدام عقولهم، وعدم الانجراف خلف الفتاوى العشوائية. إضافة إلى وجوب إحياء كتب المفكرين المستنيرين في تاريخنا، وغرسها في مناهجنا التعليمية حتّى تنشأ لدينا أجيال تتغذّى على الفكر المنفتح، ولا تؤمن بسياسة الانغلاق، وتحترم العقل كأداة فاعلة لاستمرارية الحياة.