من الضحية: القاتل أم المقتول؟!
من الضحية: القاتل أم المقتول؟!
الأحد 18/1/2008
كثيرون تفاجأوا بالحكم المخفف الذي صدر في حق المعلم المصري الذي تسبب في وفاة أحد تلاميذه، حيث أثبت الطب الشرعي وقتها أن الطفل قد كُسرت أربعة أضلاع من ضلوعه نتيجة الضرب المبرح. وكان المدرس قد قام بضرب التلميذ “هيثم” البالغ من العمر أحد عشر عاماً بسبب تقصيره في أداء واجبه المدرسي.
قصة الطفل “هيثم” أثارت لغطاً طويلًا في الشارع المصري، وأدّت إلى تقليب ملفات كثيرة كانت مهملة في الأدراج ومتعلقة بحالات أخرى لتلاميذ توفوا في ظروف مُشابهة دون أن يلتفت إليها أحد. هذه القضية فتحت شهية الإعلام المصري إلى الكشف عن سلبيات السلك التعليمي في مصر، والمطالبة بوجوب التدقيق في اختيار الهيئة التعليمية، واشتراط الدراية والخبرة والاستعداد المهني فيها، خاصة في المراحل التعليمية الأولى التي تحتاج إلى تعامل معين مع التلاميذ لصغر سنهم.
هل كان الحكم عادلاً؟ البعض علّق بأن المحكمة راعت حداثة سن المدرس، وأنه كان واقعاً تحت تأثير ظروفه المادية والنفسية، فهو في الثالثة والعشرين من عمره، ويتقاضى 150 جنيهاً في الشهر، مما جعله يشعر بالغبن والقهر، وأنه ضحية مجتمعه الذي لم يلتفت لمعاناته كشاب له أحلامه وتطلعاته.
القضية شائكة، وتفتح الباب على مصراعيه أمام أمور بالغة الأهمية ترتبط بسلك التعليم، وسلوكيات المعلم، وعلاقته بالطالب، ليس فقط على نطاق دولة مثل مصر، بل تشمل أغلبية الدول العربية التي يؤمن الكثيرون بأن نظم التعليم فيها عقيمة ومتخلفة وبحاجة إلى إصلاح وتجديد.
في اليابان على سبيل المثال، لا بد أن يخضع المدرس لاختبارات نفسية قبل أن ينخرط في سلك التدريس، كما لا يقوم بتدريس تلاميذ المرحلة الابتدائية، إلا أساتذة حاصلون على شهادات عليا كالماجستير والدكتوراه، لأهمية هذه المرحلة في تشكيل شخصية الطفل المستقبلية.
من الواضح أن انتشار ثقافة العنف في مجتمعاتنا العربية نتيجة شيوع الفكر المتطرف في العقود الأخيرة، انعكس على الأجيال الصاعدة التي تأثرت لا شعوريّاً بما هو حاصل. وفي مطلع كل يوم تُطالعنا الصحف عن حوادث عنف دموية لطلبة قاموا بالاعتداء على أحد أساتذتهم خارج أسوار المدرسة، أو تحطيم سيارته، لتطاوله على واحد منهم أثناء الحصة المدرسية، أو كون واحد من المعلمين منح أحد الطلبة علامة متدنية في الامتحان. مما جعل العلاقة فاترة بين المعلم والتلميذ تنتهي عند ضرب جرس الحصة.
تعود بي الذكرى أحياناً إلى الوراء، وأتذكر معلماتي في الفترتين الإعدادية والثانوية، وكيف كان لهن الفضل في دفعي للقراءة، وكيف ساهمت معلمة اللغة العربية في مرحلتي الثانوية إلى تنمية موهبتي، حيثُ كنتُ أطلعها على كل ما أكتبه، فكانت تقول لي باسمة: أنتِ فتاة موهوبة، ويوماً ما سيكون لك مكان في عالم الأدب.
اليوم لا توجد هذه العلاقة الحميمة بين المعلم وطلبته، بل اندثر كل شيء مع انحدار التعليم، وفقدان وصلة الاحترام بين المعلم والتلميذ، فالمعلم لا يعتزُّ بمهمته، ولا ينظر بعين الأبوة إلى طلبته لكي يحتويهم ويستمع لآرائهم. والتلميذ لا يُقدّر أساتذته ولا يجلّهم.
كما أن التعليم القائم على الحفظ والتلقين في عالمنا العربي، جعل خط النقاش والحوار الحر البناء بين الطرفين معدوماً، مما جعل المعلم يحصر همه في إنهاء الساعات المقررة عليه، دون أن ينظر لمهنته على أنها أسمى مهمة إنسانية، كونها تؤسس عقول البراعم الناشئة التي ستحمل شعلة الغد.
ما يجري هو نوع من الفساد الأخلاقي، الذي انتقل إلى أروقة الجامعات أيضاً، وكم استمعت إلى طلبة وطالبات يشكون من أساتذتهم وكيف يستخدمون نفوذهم في تحطيم مستقبل طلبة معينين، وكل ذلك بسبب ابتزازهم والحصول على هدايا مادية وعينية منهم.
من الضحية الحقيقية في المجتمع: هل هو الطالب، أم المدرس، أم النظم التعليمية، التي تركت الحبل على الغارب، فلم تلتفت إلى معاناة المدرس، ولم تلتفت إلى تربية فكر الأجيال الجديدة على الحوار العقلاني البناء؟ إن المذنب الحقيقي هو المجتمع بأكمله بكافة مؤسساته التربوية والتعليمية، التي لا تُكلّف خاطرها بمعالجة المشكلات قبل أن تتفاقم، إضافة إلى تقاعس وسائل الإعلام في تسليط الضوء على ما يجري، إلى أن تقع الفأس في الرأس، بعدها تسنُّ أقلامها، وتفرد صفحاتها لفضح المستور.