فن صناعة الحياة
فن صناعة الحياة
الأحد 23/11/2008
من أجمل الأشياء في الحياة أن يغرس الإنسان نبتة صغيرة طيبة الرائحة، قبل رحيله عن الدنيا، ينتشي برائحتها كل من يمر بالقرب منها. مثلها مثل الإنسان الذي يُخلّف سيرة طيبة، تجعل الناس يثنون على ما فيها من إنجازات جميلة، ويُقدرون ما فيها من مواقف حياتيّة مُشرفة.
مؤخراً، ماتت أسطورة الغناء “ميريام ماكيبا” عن عمر يُناهز السادسة والسبعين. وقد كانت هذه السيدة من أهم الأصوات المناهضة لنظام الفصل العنصري في وطنها جنوب أفريقيا، وهو ما أضطّرها إلى أن تعيش في المنفى واحداً وثلاثين عاماً، بعد أن جردتها السلطة هناك من جنسيتها، ومنعت أغانيها من التداول.
وقد عادت بي الذكرى إلى الوراء، حين سافرتُ إلى جنوب أفريقيا في العام الماضي، حيثُ حرصتُ حينها على شراء أغانٍ أفريقية تُعبّر عن ثقافة هذا البلد، كعادتي دوما عند كل مكان أزوره لأول مرة، فوجدتُ الجميع يُشيد بسيدة الغناء الأولى التي يُطلقون عليها “أم أفريقيا”.
هذه المرأة لم تعد من منفاها إلى بلدها، إلا بعد أن أصبح “نيلسون مانديلا” أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا. وقد كان هذا المناضل يُردد دوماً بأن موسيقاها أعطته دوماً شعوراً عميقاً بالأمل في منفاه، وأنها كانت صوت الحرية من أجل إنهاء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
لم يستطع المنفى أن يحني ظهرها، ولم تُقعدها الشيخوخة عن تقديم خدمات لأبناء وطنها، فقامت بعد عودتها بإنشاء مركز لإعادة تأهيل المراهقات المشردات. وفي جولتها الأخيرة حول العالم قالت: “عند موتي أريد أن يُنثر رمادي في المحيط الهندي لأتمكّن من الإبحار مُجدداً إلى كل هذه الدول”. وقد لفظت بالفعل أنفاسها الأخيرة، وهي تُغني في نابولي بإيطاليا، دعماً لصحفي إيطالي كان قد تلقّى تهديدات بالقتل من عصابات المافيا.
“ميريام ماكيبا” لن تكون الأخيرة في صفوف المناضلات، ولن تُصبح آخر امرأة تُساهم في تحريك قضية الحرية، فكل إنسان يؤمن بقضية ويتمسك بها، لا بد أن ينجح في نهاية الأمر في إخراجها للنور وجعلها تتنفس بحرية على الأرض.
لقد تساءلتُ وأنا أقرأ سيرة حياة هذه المرأة كم من المثقفين في عالمنا العربي لهم مواقف مُضيئة تجاه قضايا أمتهم؟! وكم من الفنانين سخّروا فنهم من أجل تسليط الضوء على محن شعوبهم؟! فوجدتني أخرج من تساؤلي بخيبة أمل كُبرى.
فالمثقف العربي اليوم بعيد عن هموم شعبه، ملهي في تثبيت موقعه، وفي تأمين حياة أسرته، وتلاشت صورة المثقف النزيه الذي يسعى بقلمه إلى تغيير وقائع مجتمعه، هذا إذا لم يتحوّل إلى بوق يُشيد طوال الوقت بحكومة بلاده!
أما الفنان العربي، فلا نرى سوى نموذج مكرر للفنان المشغول بتنمية ثروته، وغابت صورة الفنان الذي يُسخّر فنه لخدمة بلده. والشيء المخجل أنك إذا سألت أحدهم عن رأيه فيما يدور داخل وطنه من أحداث، لأجابك بكل قناعة.. أنا لا أحب حشر فني في السياسة! منطق غريب كأن الفن ليس له دور هادف في الحياة!
بلا شك أن كل فرد يملك القدرة على صناعة تاريخه، بيده يستطيع أن يجعله ناصع البياض، وبيده أيضاً يستطيع أن يجعله شديد السواد. كما أن كل فرد لديه القدرة على إضاءة حياته بالشموع، أو إغراقها في الظلام الدامس، فكيف إذن يكون الحال إذا تعلّق الأمر بالمثقف أو الفنان؟!
إن تغيير المجتمعات نحو الأفضل، وقيادة حركة التغيير، لن تحدث في مجتمعاتنا إلا إذا آمنت النخبة من المثقفين، ومن الفنانين على أهمية أدوارها. أما تجاهل قضايا المجتمع بحجة أن لها رجالها، فهذا لن يؤدي إلاّ إلى مزيد من الخراب الذي سيجلب نعيق البوم.
إن الحياة بقدر ما فيها من ترف وبحبوحة في العيش، بقدر ما فيها من معاناة وألم وانكسار، والمثقف الحقيقي، والفنان الأصيل، هما اللذان ينظران إلى جراح مجتمعاتهما على أنها جزء لا يتجزأ من جراح نفسيهما، فيحاولان أن يُساهما بقدراتهما وإنْ كانت محدودة، في التقليل من هذه المعاناة. إن أجمل أنواع النضال تلك التي تتعلق بعزة أوطاننا، ورفعة مجتمعاتنا.