وقفات مع النفس
وقفات مع النفس
الأحد 27/1/2008
وأنا أقرأ رسالة الوداع التي سطّرها الروائي العبقري “غابريل غارسيا ماركيز” شعرتُ بوخزة ألم، كون كافة الروائيين الذين عاصروا هذا الرجل تأثروا به، بل ويدينون له في بداياتهم، حيث تُعتبر أعماله الأدبية التي كتبها على مدى أكثر من أربعة عقود مدرسة في حد ذاتها، لكل من يرغب في الولوج إلى عالم الرواية وتتبّع الواقعية السحرية التي تمتاز بها أغلبية أعماله.
توقفتُ ضمن سطور رسالته عند عبارته “…تعلمتُ أن الجميع يريدون العيش في القمة غير مُدركين أن سر السعادة في كيف نهبط من فوق…”.
نعم، أغلبيتنا، إنْ لم يكن جميعنا، مهووسة ببلوغ قمم النجاح. نُصارع بكل ما أوتينا من قوة لكي نصل إلى الذروة. ننام بأجفان نصف مفتوحة متوجسين من غدنا، في أن يأتي غريب ويزيحنا عنوة ليأخذ مكاننا الذي أهدرنا سنوات طويلة من عمرنا في تنسيقه، حيث إن القمم لا تتسع للجميع وليس فيها حيز للفاشلين! رغم أن الصور الحياتية أثبتت أن الناجحين أيضاً تدور عليهم دواليب الحياة حينما تذوي النفس بالشيخوخة والمرض المفضي إلى الموت في نهاية المطاف.
حضرت في ذهني وأنا أقرأ رسالة “ماركيز”، السيرة الذاتية للأديب الألماني “هرمان هسه”، الذي كتب في واحد من فصول كتابه، أنه فعل العديد من الأشياء الغبية، وأنه عانى من آلام كثيرة في حياته، وأن جزءاً كبيراً من هذه المعاناة، كان يتمثل في عدم قدرته على التحكّم في الكره والبغض تجاه أشياء وأشخاص مروا به على مدار عمره، لكنه يقر فرحاً بأنه في كل مرة انزلقت فيها قدماه نحو هذا القاع المظلم، استطاع التحرر من الاستسلام لهذه المشاعر البغيضة بعقد مصالحة مع نفسه.
ضرب “هرمان هسه” أمثلة عديدة على تحكمه في شحنة الحقد بأعماقه، وكيف وقف في وجهها حتّى لا تُسيطر على مقدرات حياته، وكيف برع في قهرها عند كل مرة. حكى عن جاره الهولندي الذي كان بيته لصيقاً ببيته، والذي كان يتصف بعادات سيئة كإحداث ضوضاء أثناء تحركاته المنزلية، بجانب سعاله طوال الوقت والبصاق بصوت عال، حتّى وصل الأمر “بهسه” إلى الرغبة في قتل نفسه أو إطباق يديه على حنجرة هذا الجار المزعج ليتخلّص منه إلى الأبد. مع هذا قرر أن يكبح غضبه، ويهدم كراهيته بإرغام نفسه على حب هذا الرجل.
يعترف “هسه” بأن المهمة لم تكن سهلة، لكنه أفلح بنهاية الأمر في ترويض نفسه، وأصبحت تصرفات هذا الجار جزءاً لا يتجزأ من روتين يومه، حتّى انتقل هذا الجار فجأة وحلّت مكانه امرأة مسنّة هادئة الطباع لم يستطع أن يُحبها أو يكرهها كونها لم تُحرّك انفعالاته سلباً أو إيجاباً مما جعله يُصاب بالخيبة.
“ماركيز” في وداعيته، يُريد أن يقول إن السعادة تكمن في تهيئة أنفسنا لتقلبات الحياة، وفي مقدرتنا على تلقي فواجع الأيام بصلابة. و”هسه” يرى في كتابه أن الكره والبغض يحوّلان حياة الإنسان إلى جحيم، وأن التكيّف مع ظروف الحياة كثيراً ما نخرج منه منتصرين إذا تآلفنا مع الضجيج الذي يخترق بين حين وآخر مسامعنا ويُلاحقنا في لحظات نومنا.
“أحبوا أعداءكم” ليست عبارة فارغة المضمون، بل هي حكمة صائبة، تحث على تحرير النفس من الحقد الذي يُعتبر أكبر منغص للحياة، وعلى تجاوز الكره والضغينة من الداخل، وهو فن من الفنون الراقية التي للأسف يجهل أغلبية الناس التعامل معه.
كثيراً ما نُقابل أناساً أثاروا غيرتنا بنجاحاتهم ودفعونا دون أن يدروا إلى مقاومة انتكاساتنا والتصدّي بشجاعة لقصص فشلنا. وكثيراً ما نلتقي بأشخاص في حياتنا الاجتماعية مُغايرين لنا في طريقة تفكيرنا، ونجد أنفسنا مضطرين للتعامل معهم، مما يُشعرنا بالتوتر وبالعجز عن المضي قدماً، وهو ما يستوجب منّا طرد انفعالاتنا السلبية تجاههم، لنثبت لهم أننا قادرون على خلق جسور من المحبة بيننا وبينهم حتّى لو كانت تلك الجسور مهددة بالانهيار، فالزمن كفيل -كما يقولون- بتذويب المسافات وتقريب البعيد!.
لا تهدروا سنوات عمركم في إشعال المزيد من الحرائق في دواخلكم، فالحياة أبسط وأقصر من أن نبعثرها في تغذية الأحقاد، وفي البكاء على اللبن المسكوب!.