منتدى أصيلة
منتدى أصيلة
الأحد 17/8/2008
عندما وصلتني الدعوة الكريمة من طرف معالي الأستاذ محمد بن عيسى الأمين العام لمؤسسة “منتدى أصيلة” للمشاركة في ندوة “النخب والسلطة والديمقراطية في الوطن العربي”، توقفتُ عند كلمة وطن عربي، كون هذه الكلمة الجميلة المضمون لم يعد لها مكان في أوساطنا الثقافية، بل أصبح ينظر إليها الكثيرون بريبة، وحلّت مكانها كلمة الأقطار العربية والعالم العربي وغيرها من الكلمات التي تُعزز خلافاتنا الجغرافية!
لكن إحياء هذه الكلمة في الندوة أنعش الأمل في فكري بأن هناك بين مثقفينا من لم يزل يؤمن بمضامينها النبيلة.
عندما بدأتُ أكتب ورقتي، حرتُ عن أي نخبة أتحدّث! هل أتحدّث عن النخبة السياسية أم النخبة الاقتصادية أم النخبة الثقافية؟! وألفيتُ قلمي لا شعورياً يميل صوب الأخيرة، كوني أنتمي لهذا العالم من جهة، ومن جهة ثانية لإيماني القاطع بأن النخبة الثقافية الحقيقية هي التي تقود رياح التغيير داخل أوطانها، وتتحققُ النهضات التنويرية على أيديها بفكرها الواعي.
المشكلة التي صرنا نُعاني منها في الساحة الثقافية العربية، هي أنها غدت تعجُّ بأعداد هائلة من المثقفين اعتادوا على تبديل آرائهم حين ترجح كفة مصالحهم الذاتية، مما جعل شعوبهم تنظر إليهم نظرات تطفح بالريبة وتُشكك في جدية مواقفهم! هذه المواقف المائعة التي باتت سمة ظاهرة عند الكثير من المثقفين العرب، أدت إلى وقوع ردة في كافة أوجه الحياة في مجتمعاتنا العربية، وتحولت إلى مجتمعات هزيلة تنخر في بنيتها الأمراض المستعصية وتعجُّ ببؤر الفساد.
لكن هناك أيضاً قلة من المثقفين العرب آثروا أن يكونوا أكباش فداء لأوطانهم، وفضلوا أن يتلقوا السهام المسمومة بصدورهم العارية، دون أن يرف لهم جفن من أجل مستقبل ناصع للأجيال الجديدة.
إضافة إلى أن هناك نموذجاً ثالثاً من المثقفين الشجعان، اعترفوا أمام الملأ أنهم في مستهل حياتهم تشبثوا بنظريات عن قناعة ثم تراجعوا عنها لاحقاً، بعد أن أثبتت لهم الأيام خطأها وزيفها فقاموا بتطليقها طلاقاً بائناً لا رجعة فيه.
وقد ضربت مثالاً على ذلك بسطور من مذكرات الدكتور “ثروت عكاشة” وكيف كان مُعجباً في شبابه بالقائد المغولي جنكيز خان، مما دفعه إلى إخراج كتاب يُصوّر فيه عظمة هذا القائد الفذ، ويُعبّر عن إعجابه بخططه العسكرية وتمكّنه من صرع دولة ذات حضارة عريقة.
يعترف عكاشة بأنه اكتشف مع مرور الأيام ونضج تجاربه أن هذا الرجل أقام دولته على تل من الجماجم البشرية، وأنه أهدر بأساليبه الوحشية مع رجاله ثروة فكرية عظيمة خلّفها المسلمون، وهو ما جعله يُعدّه من مجرمي الحروب ودفعه إلى تحويل نظرته الجديدة في مقدمات الطبعات الخمس لكتابه التي أخرجها لاحقاً.
ماذا عن الديمقراطية في أوطاننا العربية، إذا اتفقنا على مفهوم الديمقراطية الذي يُعرّف على أنه حكم الشعب؟! هل يُوجد على مدار التاريخ شعب حكم نفسه بنفسه؟! ماذا عن السلطة في أوطاننا العربية؟! هل هي صادقة النية في إرساء معالم الديمقراطية على أرضها؟! هنا المحك الحقيقي، فلا يُمكن تحقيق الديمقراطية في ظل الدولة البوليسية التي تُصر على اختراق أبسط مبادئ حقوق الإنسان.
لكن هل كل سلطة ظالمة؟! لكي نكون حياديين، هناك أيضاً سلطة مظلومة! وقد قصدتُ بهذا التعبير، أن الظلم جاء من النخب التي تتملّق للسلطة حتّى تصل للحظوة وتنال هي الأخرى حصتها من ثروات شعوبها، وهو ما أدّى إلى جهل السلطة بما يجري في الطوابق السفلية! وقد أدّى انكباب النخبة الثقافية على تأمين نفسها، إلى فساد الكثير من الحركات الثورية العظيمة التي كانت في بداياتها ناصعة البياض. هذا باعتراف الكثير من المثقفين الذين عاصروا تلك الحقب ولم يكونوا شجعاناً في الكشف عن السلبيات، وتقديم النصح لسلطات أوطانهم حتى تتجنّب الزلات، فأحدثت مع مرور الوقت أخطاء جسيمة كانت وبالاً على الأوطان العربية بأسرها، وأقربها مثالاً حياً بيننا هزيمة 67 التي لم نزل نتجرّع تبعاتها حتى اليوم.
الحديث عن النخب والسلطة والديمقراطية في الوطن العربي كان حديثاً شيقاً بالرغم من المرارة التي يحس بها كل مثقف عربي حقيقي هاجسه الأول الديمقراطية، التي لم تزل في أوطاننا العربية امرأة لعوب تهزُّ جسدها وهي واقفة لتغري الناظر إليها دون أن تتحرك خطوة من مكانها! لكن هذا لا يمنع من القول بأن قطرات من الغيث بدأت تهطل هنا وهناك. وما زال هناك المزيد عن أصيلة.