لمن يعود قانون الذاكرة؟!
لمن يعود قانون الذاكرة؟!
الأحد 30-12-2007
حرصتُ أن يتضمّن برنامج سفري لجنوب أفريقيا، التي أطلق عليها العرب قديماً رأس الرجاء الصالح، أن أزور جزيرة “روبن” الواقعة بالقرب من المدينة السياحية الجميلة “الكيب تاون”. وهي جزيرة سيئة السمعة كونها كانت معتقلاً للسياسيين المناهضين للحكم العنصري. ويُعد الزعيم “نيلسون مانديلا” من أشهر سجناء هذا المعتقل حيثُ قضى سبعة وعشرين عاماً من عمره فيه.
يشعر المرء بالكآبة الممزوجة بالأسى وهو يجول في أرجاء المعتقل، لكنه يحس بالرغبة في تقديم تحية إكبار لهذا الرجل المناضل والشد على أيدي زملائه الذين نجحوا- بالرغم من معاناتهم داخل هذا السجن المنعزل- في أن يقضوا على التمييز العنصري داخل بلدهم ويحكموه بأنفسهم.
ربطتُ في فكري بين هذه الزيارة التي قمتُ بها، وبين القرار الذي صدر مؤخراً عن البرلمان الإسباني بعد موت الجنرال الإسباني “فرانكو” باثنين وثلاثين سنة، والذي حكم البلاد أربعين سنة بنظام قمعي استبدادي، بإزالة كافة اللوحات والرموز والتماثيل من الأماكن العامة التي ترمز إلى فترة حكمه الفاشي. ماذا يعني هذا؟! هل من حق أحد محو الصور السوداوية من ذاكرتنا رأفة بها وحرصاً على نصاعتها؟! هل من حق الغير مُصادرة تاريخنا مهما بلغت درجة قتامته؟! هل حماية ذكرياتنا من آفة التآكل، تستلزم منا الاحتفاظ بصورها السلبية والإيجابية في طرقاتنا ومبانينا وفي أدراج مكاتبنا وتحت وسائد مخادعنا؟! هل تشغيل مشاهد الذكرى المؤلمة من حين لآخر في أذهاننا، يُساعدنا على رؤية الحقائق من حولنا بواقعية، أم الواجب رميها عن آخرها في قيعان النسيان؟!.
هناك قانون أطلقه عدد من المثقفين اسمه ” قانون الذاكرة التاريخية”، وهو يعني أن من حق الأجيال المتعاقبة معرفة تاريخ أسلافها ببربريته وهمجيته، حتّى تأخذ العبرة من سقطاتهم وتتعلّم كيف تواجه الأخطار المحدقة بها بمهارة، وتُدافع عن أحلامها وطموحاتها بوعي وإدراك، وأن تتعلم بالصور الحية من حولها التي غدت من ركام الأمس، أن الحياة لا تُقدّم الأشياء طواعية على أطباق من ذهب، وأن الانتكاسات والاحباطات التي تُحيط بهم، ستندثر يوماً بصمودهم وبقدرتهم على دحر جيوش اليأس المتكالبة عليهم من كل صوب.كما أن رؤية الأجيال الصاعدة فواجع الماضي عن كثب، وتلمّس أخطاء من سبقوها، ستكسبها مناعة فائقة على تفادي أخطاء المستقبل، والتشبث بمفاهيم العدل والإنصاف بقناعة ذاتيّة.
ما جرى في البرلمان الإسباني، هل يُشجعنا على أن نحذو حذوه؟! إذا طرقنا هذا الباب بالتأكيد سيُحدث دويّاً هائلاً عند فتحه! فهناك الكثير من الأنصبة التذكارية، ومئات من التماثيل، تقف شامخة في أشهر ميادين العواصم العربية، لحُكّام وقادة كانوا أشد قسوة من نيرون وهتلر وموسوليني وغيرهم من الطغاة الذين كتب التاريخ أسماءهم بأحبار سوداء. ديكتاتوريون حقيقيون من لحم ودم، اسقطوا مجتمعاتهم بأطماعهم السياسية ونزواتهم الشخصية، في دوامة الفقر والعوز، وكانوا سبباً مباشراً في دفع أوطانهم نحو هوة الهلاك!.
ليس من حق أحد مصادرة ذاكرة الشعوب، أو عمل عمليات غسيل مستمرة لأمخاخها لتُصاب بذاكرة تالفة، وتنسى مع مرور الوقت كل من ضربها على رأسها، ونهش جسدها، وسرق خيراتها، ودمّر مستقبلها.
الذي لا يعرف ماضيه لا يملك القدرة على تلمّس حاضره ولا يستطيع التنبؤ بمستقبله! فالتاريخ يقوم على الماضي والحاضر والمستقبل. ولا تُوجد أمة على وجه الأرض صفحاتها ناصعة من الشوائب! كل شعوب العالم عانت من الطغاة والمتجبرين! وجميعها بلا استثناء ذرفت دموعاً حارقة، وأصابها الأرق، وأقلقها الخوف من ترقّب غدها!.
لستُ من الذين يؤيدون طمس معالم الاستبداد، أو تمزيق الصفحات القاتمة السواد من سجلات التاريخ. أنا ضد المصادرة، شأني شأن الكثيرين الذين يرون بأن الآثار والمعالم والمجسمات التاريخية التي خلفها الأسلاف، هي تنشيط لذاكرة الشعوب في زمن غدا كل ما فيه ينطق بالألم ومعاناة الإنسانية. ومن جانب آخر التاريخ المجسّد فيه عبرة لكل طاغ يعتقد بأن الحياة توقفت بين يديه، لتُنبهه وهو لاه في غيّه بأن السلطان لا يدوم لأحد، وأن الدنيا تدور كما تدور طواحين الهواء!.