لا عزاء للأمهات!
لا عزاء للأمهات!
الأحد29/7/2007
شعرتُ بالغيظ الممزوج بالقهر وأنا ألاحق بعينيَّ نشرات الأخبار على شاشة التلفاز وهي تعرض المؤتمر الصحفي الذي عُقد في صوفيا عاصمة بلغاريا، للممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني بعد أن سمحت السلطات الليبية بعودتهم إلى بلادهم لاستكمال بقية عقوبتهم فيها.
كل من تابع حيثيات الحكم أصابه الذهول، وهو يرى الطاقم الطبي المتورط في حقن ما يُقارب خمسمائة طفل ليبي بفيروس الإيدز، كيف استقبل أفراده في بلادهم بباقات الورود كأنهم أبطال قاموا بأعمال بطولية تستحق التقدير والتكريم، وإصدار الرئيس البلغاري عفواً كاملاً عنهم ومنح الجنسية البلغارية للطبيب الفلسطيني!.
حقيقة ما أرخص الإنسان العربي! لكنني لا ألوم الغرب على تحيزهم لشعوبهم، ودفاعهم عن حريتهم، حتّى لو كانت هناك قرائن وبراهين قاطعة تُدين تورطهم، فنحن في نظر الغرب لا نملك مصداقية في كافة شؤون حياتنا ولهذا مجتمعاتهم تُشكك في حقوقنا، ولا تعبأ بقراراتنا، ولا تكترث بأحكامنا القضائية! هم يعلمون علم اليقين بأن إعلامنا العربي الرسمي مسيّس، ينحصر دوره في تثبيت الصور المهزوزة! وأن قنواتنا الفضائية الخاصة لديها خطوط حمراء لا تستطيع تجاوزها وإلا نزلت عليها النكبات كالصواعق المفاجئة!.
هم يُدركون أن مناخنا السياسي العام يقوم على قصف رقبة كل من تسوّل له نفسه مد لسانه لتقريع حكومة بلاده، أو فكّر ولو للحظة في انتقاد أنظمة بلاده! إضافة إلى قناعتهم التامة بأن القضاء العربي أغلبه خاضع لسلطة دولته، إن قالت له يميناً يروح يميناً، وإن قالت له يساراً يذهب يساراً، وهو ما أدى في نهاية الأمر إلى تدجين الإنسان العربي، وبات غير قادر على الدفاع عن حقوقه، وإن شذ عن قاعدة الصمت جاءت نهايته وخيمة ليكون عبرة لغيره! كل هذه الصور السلبية أدت إلى عدم نظر الغرب بجدّية إلى مواقفنا، بل ونراه يغمز بعينيه تهكماً إن أردنا تخويفه “بالعين الحمرا” التي كثيراً ما نرددها في أحاديثنا! فهو يعرف البئر وغطائها بل وما تحت البئر أيضا! وأننا نقف وحيدين في مواجهة مصائبنا، نلف في ساقية الحياة من دون دروع تحمينا من الضربات التي تنهال علينا من كل حدب وصوب!.
لقد شعرتُ بأمومتي تتمزق وأنا أرى أمامي الممرضات البلغاريات يتحدثّن بنبرة الانتصار أمام حشود المصورين والصحافيين الدوليين، وحمدتُ الله أنني لستُ أماً لطفل من الضحايا الذين حُقنوا بفيروس الإيدز، وتخيلتُ مدى القهر الذي شعرن به أمهات الضحايا وهن يسمعن قرار العفو عن هؤلاء الممرضات!.
لو كنتُ مكان واحدة من أمهات الضحايا، لما همّتني ملايين الدولارات التي يريدون بها تخدير أمومتي، ولطفت البلاد من شرقها لغربها، رافعة يافطات الاحتجاج على انحياز الغرب لقضية الممرضات البلغاريات، ودعوت إلى تطبيق العدالة على الجميع بعيداً عن التمييز العرقي والديني!.
ولو كنتُ مكان واحدة من هؤلاء الأمهات، لاقتحمت الإعلام الغربي، وطالبت بتوقيع أقصى العقوبة عليهن كونهن السبب الرئيسي في سلب أرواح هؤلاء الأطفال الأبرياء!.
ولو كنتُ مكان واحدة من هؤلاء الأمهات لوقفت أمام كاميرات المصورين، وتصدرّت صحفهم، وبكيت علناً واضعة أدلتي أمام الملأ، لأقول لهم بصوت جهوري بأننا نحنُ الضحايا، ونحن من فقدن فلذات أكبادهن!.
ولو كنتُ أماً لطفل من هؤلاء الضحايا، لطالبت بوجوب استقلالية القضاء، حتّى لا يُشكك الغرب في نزاهة قضاتنا، ويستخف بأحكامهم، ويلوي أذرع حكوماتنا!.
أحمد ربي أنني لستُ واحدة من هؤلاء الأمهات، ولكنني أريد أن أهمس في أذن صحيفة “الجارديان” البريطانية التي كتبت في افتتاحيتها بأن الفضل في إنهاء قضية الممرضات البلغاريات يعود إلى إنجازات القوة الناعمة للاتحاد الأوروبي، في قدرته على التأثير على بلد عبر العقوبات أكثر من القوة المتوحشة! بالقول: ليس هناك أكثر وحشية من أن يُستهان بمشاعر أمهات نزفت أمومتهن أمام أعين المجتمع الدولي، مع هذا لم يجدن من يمسح دموعهن أو يتعاطف مع مصابهن. إن دمعة أم فقدت طفلها هي طلقة رصاص غادرة في جبين العدالة الإنسانية!.