هل تتحدّث النُصب التذكارية؟!
هل تتحدّث النُصب التذكارية؟!
الأحد 22/7/2007
بكل مدن العالم تقف شامخة وسط ميادينها الشهيرة، تماثيل تُجسّد ملامح عظمائها من مفكرين وفلاسفة وأدباء، كانت لهم أدوار بارزة في مجتمعاتهم. تماثيل تقول لكل غريب وعابر سبيل يحط بقدميه أراضيهم، إن شعوبهم تُنجب العباقرة، وإن هذه التماثيل ما هي إلا أدلة دامغة على عرفانهم لما قدمه هؤلاء للبشرية، وتعبيراً عن مكانتهم في قلوبهم، وكي يكونوا نبراسا يضيء دروب الأجيال المتعاقبة. فنجد على سبيل المثال لا الحصر في ميادين القاهرة مثلاً، تماثيل منحوتة لطه حسين وأحمد شوقي ونجيب محفوظ وغيرهم من الذين تركوا بصمات حية في تاريخ الأدب العربي المعاصر.
لماذا النُصُبُ التذكارية؟! هل التماثيل تتحدّث؟! لماذا يُخلد المبدع بعد وفاته؟! من المعروف أن هناك العديد من العباقرة أنهوا حياتهم بالانتحار بعد أن أصيبوا بخيبة أمل في أوطانهم! وهناك من اتهمتهم مجتمعاتهم بالزندقة وأقيمت لهم المشانق، منحصرة تهمتهم في كونهم سبقوا عصرهم بأفكارهم! وهناك من ماتوا شهداء في معركة الحياة، وهو يحملون ألوية معتقداتهم بين أيديهم. وبعد مرور عقود وربما قرون على موتهم يكتشف أقوامهم بأنهم كانوا أفذاذاً، قدّموا أرواحهم قرابين من أجل البشرية جمعاء، فيحاولون إعادة الاعتبار لهم.
في كل الدنيا يدفع المبدع ثمن إبداعه، إذا غرّد خارج السرب، أو ملك حنجرة جميلة تُحرّك الإعجاب، أو تثير حنق الحاقدين. لكن في عالمنا العربي الذي اعتاد فيها الفرد العربي التعبير عن مواقفه بشراسة، تصل أحياناً إلى حد القسوة المبالغ فيها، يدفع المبدع العربي أثماناً باهظة خاصة إذا قام بالعزف على أوتار الحرية، ونادى بإطلاق حرية التعبير من السجون العربية التي طال مكوثه فيها!.
المضحك المبكي أن كثيرا من المبدعين الذين يموتون غرباء داخل أوطانهم، أو في المنافي البعيدة، تزعق الأبواق حزناً عليهم بعد وفاتهم، وتُقام حفلات تأبين تتحدث عن مآثرهم، بل وتتنافس وسائل الإعلام على نشر صور كفاحهم. ليس هذا فحسب، بل يمتشق الكثير من الكتّاب أقلامهم لنعيهم، ويصل الأمر إلى خلق قصص وهمية عنهم، وتسطير وقائع جرت معهم، كلها من وحي خيالاتهم، مطمئنون بأن الأموات لا يتحدثون وبالتالي لا تُوجد دلائل تدحض أو تؤكد أقوالهم المزيفة!.
منذ أسابيع قليلة ماتت الشاعرة العراقية “نازك الملائكة” في أحد مستشفيات القاهرة، والتي ارتبط اسمها بحركة تطوير الشعر العربي الحديث مناصفة مع الشاعر “بدر شاكر السيّاب” الذي مات هو الآخر بعيداً عن أرضه العراق بدولة الكويت. نموذجان يمثلان عقوق المجتمعات العربية في الوقوف بجانب المبدعين الذين تنحسر عنهم الأضواء لعوامل كثيرة!.
ما أن أعلن عن خبر وفاة “الملائكة” حتى هبّت الأقلام تبكي فقدان هذا الصرح العملاق الذي يُعتبر رحيله خسارة للساحة الأدبية العربية! والمدهش في الأمر أنني سمعت بأذني عددا من الصحفيين والكتّاب يتساءلون بدهشة.. أما زالت هذه الشاعرة على قيد الحياة؟! مما يعني بأن الذاكرة العربية ضعيفة تجاه مبدعيها، وأنها لا تتذكّر مآثرهم إلا حين تتوارى أجسادهم تحت الثرى!.
قد يقول قائل بأن الكل أصبح يُغني على ليلاه، وإن مجتمعاتنا صارت تغصُّ بالكثير من القضايا الشائكة التي جعلت الجميع يدور في دائرة همه الخاص، لكن هذا لا يشفع للمؤسسات الثقافية تقاعسها في الوقوف بجانب المبدع الذي يتوارى عن الظلال بسبب المرض أو الشيخوخة أو نتيجة إحساسه بالخيبة في مجتمعه، والذود عنه إذا تعرّض لبطش على يد سلطة بلاده، جراء مطالبته بالإفراج الفوري عن حريات التعبير داخل وطنه.
هذا هو التكريم الحقيقي للمبدعين، لا في التطبيل المنمّق وإقامة حفلات التأبين لهم بعد موتهم، متناسين بأن الشاة لا يهم ذبحها بعد موتها.!
حضارة كل أمة تكمن في مدى تقديرها لمبدعيها، كونهم وحدهم القادرون على رفع ألوية التغيير، ودفع مجتمعاتهم نحو حياة أفضل. ويكفي بأن الأقلام هي الأقدر على مواجهة سلبيات عالم اليوم، الذي غدا لا يُتقن سوى لغة البنادق.!