البكاء على الدم المسكوب
البكاء على الدم المسكوب
الجمعة 18/11/2005
أن يحمل الإنسان قضيته على ظهره، ويطوف بها أرجاء الدنيا، من شرقها لغربها، ومن شمالها لجنوبها، ليس بالأمر الهيِّن، هذا يستلزم منه أن يكون جلداً، صبوراً، لكي يتحمل الصعاب والمشقات، معرّضا حياته للأخطار، مقابل الترويج لما يؤمن به، وترسيخ مبادئه بين الناس· لكن كم يكون مؤسفاً لو جاءت نهاية هذا المرء على يد قضيته، التي كرّس حياته من أجل إرسائها على أرض الواقع؟!.
أتذكّر عندما خرج علينا المخرج العالمي مصطفى العقاد بفيلمه الشهير ”الرسالة”، قامت الدنيا ولم تقعد، وأصرّت عدد من الدول العربية على عدم السماح له بعرض فيلمه على أراضيها، بمن فيها سوريا موطنه الأصلي، على الرغم من أن هذا الفيلم كانت له مردودات إيجابية كثيرة، في توضيح صورة الإسلام الحقيقية، بل إنه بشهادة الشهود ساهم في إسلام البعض بعد مشاهدتهم له· ثم أعقبه بفيلمه الجميل ”عمر المختار” الذي أدّى دوره بإتقان الممثل العالمي ”أنطوني كوين”، الذي يُبرز دور هذا المجاهد، إبان حقبة الاستعمار الإيطالي في ليبيا·
أردد دوماً أن الفن هو أكبر مروّج للمعتقدات والأفكار، كونه قادراً على القفز فوق الحواجز، والتسلل تحت أعقاب الأبواب، وتجاوز السدود، لالتصاقه القوي بالبشر، وتأثيره السحري في بلورة فكر الشعوب، وتغيير مفاهيمها، وهو ما آمن به العقاد، لقناعته الذاتية بأن تغيير نظرة الغرب السلبية لنا، وإيصال مطالبنا للعالم، يكمنان في تطويع سلاح الفن، وتوجيهه الوجهة السليمة·
العام الماضي، عندما شاهدت فيلم ”مملكة السماء” الذي كان يدور حول الحروب الصليبية، ونجاح القائد صلاح الدين وقتها في انتزاع القدس من أيدي الصليبين، خطر حينها العقاد على بالي، وتساءلت: كيف كان العقاد سيبرز صلاح الدين، من خلال هذه النوعية من الأفلام التاريخية؟!.
لقد نجح العقاد في إبراز جوانب مضيئة في تاريخ حضارتنا الإسلامية بحرفية ومهارة، واستطاع أن يُبيّن للعالم أجمع، أننا أمة تؤمن بنبي عظيم، أتى بدين متسامح· لكن العقاد، للأسف، في نهاية الأمر، لم يدرِ وهو يُصارع هنا وهناك، مدافعاً عن عروبته، منقّبا عن ممول لفيلمه ”صلاح الدين” أن حلم عمره سيموت معه مغموساً في دمه، بأرض معركة لم يكن يُفكر ولو للحظة أن يكون طرفاً فيها، أو أن تكون خاتمته عليها·
إن مجتمعاتنا العربية لم تُطلِّق عاداتها طلاقا بائناً، بل ظلّت وفية للكثير من خصالها بما فيها الإيجابية والسلبية منها، وها هي تولول وتلطم خدودها على فقدان واحد من عباقرتها، ظلَّ إلى نهاية عمره، يشكو إعراض المسؤولين ورجال الأعمال العرب عن تمويل أعماله التاريخية· مجتمعات تعودت دوماً البكاء على اللبن المسكوب، دون أن تتعلم من تجاربها، بالمحافظة على عظمائها، بأن تمنحهم كل أدوات البقاء، من دعم مادي ومعنوي ليبدعوا ويساهموا في بناء مجتمعاتهم، كما يفعل الغرب، الذي يحتفي بعظمائه، ويتبنى طموحاتهم، ويُخلّد ذكراهم من خلال أعمالهم، لإيمانه بأن طريق التحضّر والتقدّم يمر من خلالهم·
لقد مات العقاد وحلمه عالق في رأسه، وإيمانه بعروبته يسكن فكره، هذه العروبة التي حارب من أجلها، وتمسّك بها إلى الرمق الأخير، دون أن يخطر بذهنه أنها ستكون الخصم والحكم·
كم مخجل أن تُزهق روح، على يد فكر متطرف باسم الدفاع عن العروبة والإسلام· رحم الله العقاد·