هناك أشياء تغيب
هناك أشياء تغيب
بيت خالي
استيقظت من نومي على لكزات خفيفة في خاصرتي ،فحت عينيَّ بتثاقل، لمحت من خلف غشاوة النوم هيئة أمي واقفة أمامي، الدموع تملأ صفحة وجهها، لملمت شتات ذهني الخامل ، سألتها بجزع : ماذا هنالك ؟! قالت : خالك توفي في ساعة متأخرة مساء الأمس ، سيوصلني السائق إلى منـزله ،ويعود لأخذك . حاولت جاهدة الانسحاب من طراوة الفراش، مخدر النوم ما زال يسري في أوصالي ، لاح أمامي طيف خالي، ترحّمت عليه ، حوقلتُ، تعالى فجأة رنين الهاتف مخترقاً جدار الصمت الحزين ،تجاهلت نداءه ، تواصل الرنين بإلحاح ، استسلمت في النهاية له ، اخترق سمعي صوت أختي الكبرى :
حياة ، خالنا توفي .
– أعلم !.
– هل أمرُّ عليك ؟!
– حسناً أفضل الذهاب معك عوضاً عن السائق . أف ! كم أكره حضور مراسم العزاء .
– يرتفع صوتها ، قائلة بـحدة : لكنه خالك !!
– لا داعي لموشحات النصائح في هذا الصباح . أنت تعلمين مقدار حبي لخالي !
أحسست برعشة كآبة تسري في مفاصلي وأنا أدلف عتبة البيت العتيق ،الزاخر برائحة الموت، تصعقني رهبته، صوت المقرئ ينبعث من جهاز التسجيل (( ..يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ..)) تجول عيناي في أرجاء المكان، الأثاث القديم، الحجرات الواسعة، العالية الأسقف، الجدران المتصدعة، السلالم المتآكلة ، ((شيش الرواشين)) المتساقط من لطمات الرطوبة ، كل شيء يئن من سياط الزمن ، التي تركت بصماتها على كل الأشياء ، نفثت زفرة طويلة ، لاحت مني التفاتة صوب زوجة خالي المتشحة بالسواد ، تعجّبت، سبحان الله، كم تعجّل أوجاع السنين بشيخوخة الإنسان !. كأنها امرأة تجاوزت السبعين ، وهي ما زالت في الستين ! أمي تربت ظهرها، تشاركها تقاسيم الألم ، خالي كان شقيق أمي الوحيد، أعرف مقدار حبّهما لبعضهما البعض ، لم أرهما يوماً متخاصمين ، كان يأتي كثيراً لزيارتنا، ويبث همومه لأمي ، رغم كونها تصغره بسنوات ليست بالقليلة . تخيّلت هيئته، ابتسامته الوديعة ، حكاياته الشيقة ، كان وميض الرضا يطل دوماً من مساحة عينيه ، يسكن في أحد الأحياء الشعبية في
مدينة جدة ، عند مدخل سوق العلوي ، في منزل قديم تعلوه مظاهر الفقر، ورثه عن جدي ، تنازلت له أمي عن نصيبها فيه ، أنجب ابنة واحدة ، حاول أن ينجب غيرها، لم يرد الله ، سلم أمره ، رضخ لعطيّة الرحمن .
كانت صفية ابنة خالي، في عمري تقريباً، فائقة الجمال، أخذته عن والدتها اليمنية الأصل، كانت لها عينان واسعتان ، عسليتا اللون ، ووجه مستدير، دقيق الملامح، وبشرة وردية ، ناعمة الملمس ، وجسد عاجي ، متناسق القالب . كانت تنتابني أحياناً لمسات غيرة منها، أحرص على قضاء عطلة نهاية الأسبوع في بيتهم . زوجة خالي سيدة صارمة ، ذات أنوثة أخاذة ، عقليتها مدبرة ، استطاعت التآلف مع أوضاع خالي المادية ، أتذكر كيف كانت تدخل علينا، ونحن نغط في النوم ، تغلق جهاز (( التكييف )) تدير المروحة العمودية ، توقظني حرارة الغرفة ، أهرب إلى السطح تصفعني نسمات الليل الندية ، أسترق النظر إلى النجوم ، أحس بوقع أقدام مجهولة ، أهرع من مكاني ، أختبئ تحت اللحاف ، أنفاس صفية تداعب أرنبة أنفي . أدير رأسي إلى الجهة الأخرى ، أغوص من جديد في بحيرة النوم .كانت زوجة خالي تحب تربية الطيور ، أفرح أنا وصفية برؤية طقوس الذبح ، كنا نقف من بعيد ، نراقبها وهي تمسك رأس الطير بيدها، وباليد الأخرى تنحر ببلادة رقبة الطير بالسكين ، اندفاع الدم يقززني ، أخفي وجهي براحتيَّ ، يتملكني الفضول ، أعاود الفرجة .
عندما تفتحت معالم أنوثتنا ، قرر أهلنا وجوب ارتداء العباءة ، بكيت بحجة أنها ستعيق حركتي ، لاحظت وقتها الفرحة تعلو وجه صفية ، سألتها بدهشة عن مبعثها ،أجابتني بنشوة : أنت بلهاء . لبس العباءة اعتراف صريح بدخولنا عالم الكبار !! بعد عيد ميلادنا الخامس عشر ، أخذت أحاديثنا منحى آخر ، وأسراراً من نوع مغاير ، كنا نغافل زوجة خالي ، ونهرع إلى سطح البيت ، ونتسلق سوره العالي ، لرؤية صدّيق ابن الجيران ، الذين كان بيتهم مواجهاً لبيت خالي ، كانت صفية مغرمة به ، وكان هو الآخر متيّماً بها ، لم يكن صغيراً ، بل شاباً في الثالثة والعشرين ، مهووساً بكتابة الرسائل الغرامية ، بارعاً في رصّ معاني الحب ، يكتبها بلغة جميلة ، يبث فيها أشواقه ، كان يربطها بحجر ، ويقذفها ناحيتنا . ذات مرة قابلته صفية خلسة ، رجعت وضربات قلبها تتسارع دقاته ، وجهها مشعّ بالسعادة ، سألتها يومها بلهفة : قصّي عليَّ ما حدث بينكما .أسدلت أهدابها إلى الأرض ، أجابتني بمكر طفولي وشفتين مرتعشتين : لم يحدث شيء .
عندما كنا نصغي لكلمات الأغاني العاطفية ،أو نتابع مشاهد ساخنة في أحد ( الأفلام ) على جهاز ( الفيديو )، تدهمنا بغتة فلول رغباتنا، تعلو وجهينا حمرة من الخجل ،نندس في الفراش ، نولي ظهرينا لبعضنا ،تصمُّ كل منا أذنيها في عمد عن سماع فحيح الأخرى المنبعث من تحت الغطاء ، إلى أن نطفئ سعير غرائزنا في صمت لذيذ !!
سألتني مرة على استحياء : ألا تحلمين برجل ؟! أجبتها بصوت خفيض : بلى .في بعض الأحيان ، نمارس لعبة الوقوف أمام المرآة ، نتخايل في تباهٍ ، تظهر كل منا مفاتنها الأنثوية ، تستفزُّ غيرتي قائلة : انظري ،لقد حباني الله أروع جسد تملكه فتاة على وجه الأرض . في إحدى المرات ، أرادت (( صفية )) إلقاء رسالة إلى صدّيق ، قالت لي : أمسكي السلم جيداً .غرقنا لحظتها في هستيريا متواصلة من الضحك ،لا أدري كيف اختلّ توازنها ، قفز جسدها خارج السور ،ترنّحت في الفضاء ،كانت عيناها عالقتين ناحية صدّيق ، ذراعاها يحاولان السباحة في الفراغ ،بريقهما الفزع يستنجد به ،في لحظة خاطفة هوت أمام ناظريَّ ،ارتطم جسدها بقوة على أرض الشارع ،كان البيت مكوناً من ثلاثة طوابق ،لسوء الحظ وقعت صفية على رقعة صلبة ،عاشت بعد الحادثة ثلاثة أيام في غيبوبة تامة ،ثم قضت نحبها . دخلتُ سنة كاملة في قوقعة الكآبة ،طيفها يسبح في عتمة أيامي ،صوتها يرن صداه في أذنيَّ ،كنت من حين لآخر ،أزور خالي ،نظراته تحيطني بالحب المغلّف بصهد الظمأ والشوق . بعد وفاة صفية بسنوات ،تقدّم صدّيق لخطبتي ، رفضته بلا أدنى تردد ،ظلّت أنفاس صفية تُكبّل أوصالي . أذكر ذلك اليوم ، الذي رأيت فيه أنواراً معلقة تُزيّن مدخل الشارع ، المحاذي لبيت خالي ، عرفت أن هذه الزينة لحفل زواج صدّيق . بكيت كما لم أبكِ في حياتي ، شعرت بروح صفية تأسر أفكاري ،تصورتها تتبختر في ثوبها الأبيض ، صّديق يحيط خصرها بذراعه ، رنة ضحكتها تزلزل أحزاني .
يوم تخرّجي من الجامعة بكى خالي ، احتواني بين ذراعيه قائلاً : لو كانت صفية حيّة لتقاسمتما فرحتكما معاً .
اجترار الذكريات يُصدّع رأسي ،أمزق شريط صورها بضراوة ،أرسو بفكري على أرض واقعي ، أتوقف عن الخوض في هلوسة الماضي ، أهمس لأختي : أريد القيام . ترشقني بسهام نظراتها المحتجة: لا بدّ أن تقومي بواجب العزاء ، إنه خالك . ماذا تريدين أن يقول الناس عنّا ! تدور إحدى القريبات (( بدلّة )) القهوة ، هيئة الفناجين الصغيرة المرصوصة فوق بعضها بعضاً تُحرك رياح تشاؤمي ، لاحت لي كالرؤوس المقطوعة ، توقفت المرأة أمامي ، سألتني بإشارة من يدها إن كنت أرغب في فنجان من القهوة ؟ رفعت سبابتي بالرفض ، تأففت ، لم أعد أحتمل الجلوس في هذا الجو الخانق ،المعبأ بالانكسار ،وجه الماضي يُكشر عن أنيابه ،يغرسها في حواسي ،أكفه تصفعني ، هودج الذكريات يهزّ أوجاعي ، روح صفية تدنو صوبي ،صوتها يعبث بأعماقي ،يناديني : حياة ، تعالي نلعب . أنت غشاشة ، هذا دوري ،انظري يا حياة ،ما رأيك في ثوبي الجديد ؟! أتدرين يا حياة ..عندما أتزوج ،سأنجب عشرة أبناء. لا أريد أن يُعاني أبنائي من الوحدة . أريد أسرة كبيرة . هل سيخطبني صدّيق ،أما زلت صغيرة على الزواج ؟! تعاود الضحك ، دوي ضحكاتها يمزقني ، يملأني وجعاً ، أنتفض من مقعدي ،أمرق وسط النظرات المحتجة ، أمي تناديني ، أختي تكرر نداءها ، أتلفّع بوشاحي ، الهواء الساخن يلطم قسمات وجهي ،وقفت أمام بيت خالي ،رفعت عينيَّ ،ألقيت نظرة سريعة على مبناه المسن ،لاح لي طيف خالي واقفاً عند أحد (( الرواشين )) المفتوحة ، ملوحاً لي بالوداع ،كعادته دوماً ، عيناه تنضحان بالصفاء ، بجانبه تقف صفية، بوجهها الطفولي النضر ، وقد أسندت رأسها إلى منكبه ، دمعت عيناي ، أمرت السائق بالتحرّك ، أيقنت أني لن أخطو عتبة هذا البيت ، مرة أخرى .
•••
وغرقتُ في نفسي
مدّدتُ ساقيَّ على العشب الأخضر، متأملة بإعجاب الطبيعة الخلابة المحيطة بي ،تلهيت في إلقاء قطع صغيرة من الخبز للبجع العائم في نهر (( التيمز ))، الذي يشق منطقة (( وندسور ))، خارج لندن . أحسست بيد تهزُّ كتفي ،انتفضت حواسي ،لاحت مني التفاتة صوب سيدة عجوز تقف بجواري ،هيئتها فوضوية ،منكوشة الشعر ،تنبعث منها روائح عفنة ،بدأت تتفوه بكلمات مبهمة ،لم أفهمها ،نكهة فمها كريهة ،خنقت أنفاسي ،تجاهلتها ،ظلت متسمرة في مكانها تناهى لسمعي صوت اندلاق ماء منبعث من ناحية المرأة ،دفعني الفضول لمعرفة كنهه ،كانت المرأة تتبول واقفة ،وقد أفرجت قليلاً عن ساقيها ،قفزت من مكاني ،لعنت هذه المرأة التي عكّرت صفو نهاري . انتقلت إلى بقعة أخرى ،طردت هذه اللحظة المنفرة من دائرة تأملاتي ،عدت للتلهي من جديد برمي قطع الخبز ،شردت إلى البعيد ،شدتني حبال الذكريات إلى موطن الماضي ،وحضور العم جابر بقوة ،في ساحة حاضري . هذا الرجل المختل العقل ،الذي كان يجوب طرقات حيّنا في مدينة جدة ،بثيابه الرثة ،المهلهلة ،وتحلّق الأطفال حوله ،إثارته بتصرفاته الصبيانية. يخرج في بعض الأحيان عن طوره ،خصوصاً إذا أمسك أحدهم بتلابيبه ،يسعى جاهداً للنيل من أقرب صبي فيهم ،يضربه بعشوائية، يستغرق الصبي في الضحك ثم يمرق بخفة من بين ذراعيه .كنت أتابع هذا المشهد المتكرر من شرفة بيتنا ، المطل على الشارع العام، أحس بالحزن يفطر قلبي ،أشفق عليه من عبث الصبية ،ألاحقه بعينيَّ ،ينزوي في أحد الأزقة الجانبية ،يدفن رأسه في حجره ،يضمها بذراعيه ،ينفجر بكاءً كالأطفال .كانت أمي تقتطع جزءاً من طعام غدائنا للعم جابر ، ترسله مع الخادمة ،إلى البقعة التي تعوّد النوم فيها بحوش المنزل المهجور الملاصق لبيتنا ،متعجّبة من جرأة العم جابر ،لاسيما أن الجميع يؤكد أن البيت مسكون بالعفاريت، وأن أصواتاً غريبة تنبعث من داخله ،مخترقة قلب الليل الساكن .كانت خادمتنا ترتعد فرائصها كلما أرسلتها أمي إلى هناك ، وتترجاها خوفاً من أن يلبسها أحد الجان !! تضحك أمي ،مرددة عبارتها الشهيرة : ما العفريت إلا ابن آدم .سألت أمي يوماً عن سبب جنون العم جابر!! قالت بحسرة : الزمن غدّار يا بنتي ، لا يرحم أحداً !! إجابتها لم تشبع فضولي .أتعمّد أحياناً استراق السمع لأحاديث أمي وجاراتها ،حين تكون دورية الأسبوع في منزلنا ،يتردد اسم العم جابر في مجالسهن ،فهمت من مغزى كلامهن ،أن العم جابر ،جنّ بسبب زوجته ،كان تاجراً كبيراً ، ذائع الصيت ، إلى أن اكتشف خيانة زوجته ، ضبطها بالجرم المشهود ، لم يتمالك أعصابه ،قام بقتلها مع عشيقها ببندقية الحراسة التي كان يحتفظ بها ، معلقة على حائط غرفة نومه ، أصبح بعدها معتوهاً، يجوب الشوارع ، ليلاً ونهاراً، مردداً عبارة ..غير معقول !!
يوماً رجعت الخادمة بصينية الطعام كما هي ، مخبرة أمي أنها بحثت عن العم جابر، فلم تجده . خرجت لحظتها متسللة خارج البيت ، وقفت عند ناصية شارعنا ، أراقب المارة الذاهبين ، والغادين أمامي ، عسى أن ألمح العم جابر بينهم ، أخبره أن طعامه قد برد ، لكنني لم أعثر على العم جابر ، كنت وقتها في التاسعة عشر من عمري ، مرت السنوات وطيفه عالق في ذهني ، يحضرني من حين لآخر، متسائلة : أين يكون العم جابر قد ذهب يا ترى ! راودني أيامها هاجس طفولي ، أن إحدى الجنيات قد قامت بخطفه وأخذته معها إلى باطن الأرض ، مثل حكايات جدتي ، التي كانت تقصها علينا كل مساء . سرتْ بعد اختفائه شائعات كثيرة ، أن شبح العم جابر يظهر ليلاً ، يجوب أزقة الحي وهناك من يقسم بأنه سمع صوته في ليال متفرقة ، مردداً عبارته الشهيرة .. غير معقول !! وهناك من يجزم بأنه رأى جثته طافية فوق سطح البحر الأحمر ، قبل أن تجذبها أسماك القرش للقاع . دفعتني هذه التصورات ، في بعض الأحيان إلى فتح نافذة غرفة نومي ليلاً ، والتي كانت تطل على البيت المهجور ، فأدلي برأسي ، عسى أن يقع ناظري على العم جابر ، وأحياناً أخرى في أمسيات الشتاء الباردة ، يطير النوم من عينيَّ ، أحس بروحه تحوم في فراغ غرفتي ، تصيبني لحظتها قشعريرة خوف ، أدفن رأسي في حضن أختي ، تدفعني عنها وهي غارقة في بحيرة نومها ، متوسلة في نبرة ناعسة ، أن أدعها تنام ، فأبتعد عنها مجبرة عند حافة الفراش ، وأذرف دموعي في نهنهة خافتة . سألت أمي في فضول : هل تعرفين أين ذهب العم جابر ؟! لحظتها رأيت أمي تنظر في وجهي بعمق قائلة : مصيره ظلّ مجهولاً، هناك من يقول بأن سيارة مسرعة دهسته ، ثم ولّى صاحبها هارباً ، وهناك من يقول بأنه غرق في ماء البحر ، وأن جثته جرفتها الأمواج بعيداً عن الشاطئ ، و .. !!
همسات ملتهبة ، ممزوجة بضحكات خافتة ، منبعثة من ناحية فتى وفتاة ، أعادتني إلى بقعة حاضري ، رمقتهما بفضول ، لاحظا نظراتي المتعطشة ، سحبا نفسيهما بعيداً ، وقد تعانقت يداهما في انجذاب عفوي . أحسست بجفاف مفاجئ في حلقي ، اتجهت صوب إحدى (( الكافتيريات )) الصغيرة المنصوبة لبيع المرطبات و (( الآيسكريم )) ، ابتعت واحدة ، التهمتها حتى آخرها ، اخترت مكاناً آخر ، انسدحت على جنبي ، عبثت من جديد في صندوق ذكرياتي ، عادت صورة العم جابر تشغل مساحة فكري كنت ألمحه أحياناً كثيرة ، وأنا ذاهبة إلى المدرسة ، جالساً القرفصاء ، مسنداً ظهره إلى جدار منزلنا ، أرى تقاسيم وجهه ، تشع بالفرحة ، يتابعني بعينيه الزائغتين ، أهرع ناحيته ، أدسُّ في يده قطعة معدنية ، من مصروفي الخاص ، يبتسم ، تظهر أسنانه الصفراء المتعرجة ، الكثيرة الثغرات ، يرفع العملة المعدنية إلى شفتيه المتشققتين ، يقبلها بشغف ، ينهض مهرولاً ناحية دكان العم صالح ليشتري قطعة حلوى ، في كل عيد كانت أمي تعطي العم جابر ثوباً من ثياب أبي القديمة ، كان يضمه إلى صدره في لهفة عجيبة ، ينحشر في ركنه المعتاد ، يقوم بارتدائه ، يخرج إلى الشارع العام وقد ارتسمت النشوة على محياه . كان الثوب يبرز لون بشرته السمراء التي زادتها أشعة الشمس الحارقة دكنة ، مع مرور الأيام يتمزق الثوب ، يذهب رونقه ، يصبح قذراً كالأثواب السابقة ، وتفوح رائحة الصنن منه . طلبت من أمي يوماً خفين قديمين ، من أخفاف أبي ، سألتني لحظتها : لماذا ؟! أخبرتها أن العم جابر تشققت قدماه من السير حافياً ، وأنني لمحت بطانتهما ، تنزفان دماً . أعطتني إياهما ، مؤكدة لي على مضض أنها منحته العديد في السابق .
حصلت واقعة ، ظلت أمداً طويلاً تقفز في ذاكرتي : كعادتي دوماً في صباح كل يوم ، قمت بدس قطعة معدنية ، في راحة يده ، أحاطني لحظتها بنظرات حانية ، في حركة مباغتة شدَّ معصمي ، لثم كفي بشفتيه المبتلتين بلعابه ، اشتعلت في بؤرة عقلي تحذيرات أمي بوجوب أخذ الحيطة من الغرباء ، شددت ذراعي بقوة ، دفعته بقبضة يدي في قفص صدره وهرولت بعيداً عنه . بكيت ليلتها طويلاً ، لاحت أمامي صورته ، وهو يلملم نفسه ، وقد ارتعشت شفتاه خوفاً ، مكوّماً في جذع جسده النحيل ، منتحباً في صمت ودموعه المتلاحقة تنساب على وجنتيه .
دسست سيرة العم جابر في جراب الماضي ، انشغلت بدراستي ، وخطبتي ، بعد شهور من زواجي عدت من عملي مبكرة لإحساسي بتعب مفاجئ ، ضبطت زوجي يلهو في مخدعي مع خادمتي الآسيوية ، راودتني لحظتها ، رغبة مجنونة ، في إغماد سكين في صدره ، أو خرق جسده بوابل من الرصاص !! سطعت فجأة في ذهني هيئة العم جابر ، زبده الراقد في سكون على جانبي شدقيه ، لحيته الكثة ، الغمامة السابحة دوماً في مساحة عينيه ، بنيته المتهالكة ، نتوءات ظهره الهرمة . تراجعت في خوف ، اندفعت خارج البيت ، أركض ركضاً ، حتى وصلت إلى منزل أبي ، رميت نفسي في أحضان أمي ، أجهشت بالبكاء ، تشبثت بالطلاق في إصرار مستميت .
غياب العم جابر ، أسقط جزءاً من حياتي في دائرة الغموض ، ترك ثغرة مفتوحة لم أطمرها إلى اليوم ، كلما حضر شخصه في بالي ، أحسست بغصة في حلقي ، متسائلة : أين يكون العم جابر ، قد ذهب يا ترى !!
باع أبي بيتنا القديم ، انتقلنا إلى حي مستحدث ، كان الحنين يغلبني ، أطلب من أبي المرور بالسيارة من حيّنا السابق الكائن بطريق الميناء ، أدير وجهي ناحية البيت المهجور ، عسى أن ألمح طيف العم جابر ، اشترى أحد المقاولين ذلك البيت ، وقام بهدمه ، مشيّداً مكانه مركزاً تجارياً حديثاً ، مع توالي السنين تغيرت معالم الحي ، انطمست هوية مبانيه ، بعدها لم أعد ألحُُّ على أبي لاصطحابي إلى هناك .
المطر نبّهني ، أضحى رذاذه شديد الوقع ، الناس من حولي ، يهرعون في الاتجاهات كافة ، فاتحين مظلاتهم الشمسية ، تلفت حولي ، باحثة عن مكان أحتمي به من وابل المطر المنهمر ، كانت السماء تومض ببرق يسير ، مصحوباً بدويّ من الرعد المتقطع ، أصابتني حالة من الضعف غير الإرادي ، اندفعت في اتجاه الطريق المحاذي للنهر ، أخذت أسير الهوينى ، اندفع ناحيتي أحد الكلاب ، أفلت زمامه من يد صاحبه ، صرخت جزعة ، رفع تصرفي حرارة هيجانه ، قفز صوبي ، حاولت تفاديَ لمسه ، اختل توازني ، سقطت كتلة جسدي في النهر ، عاودت الصراخ ، برز أمامي العم جابر ، يعلو ويهبط بجذعه العلوي المبلل بالماء ، وقد تعالت رنات قهقاته ، اقترب مني ، رش وجهي بحفنة من الماء البارد ثم غاص ثانية في أعماق النهر ، تاركاً فقاعات هوائية في دائرة موقعه !!
•••
الـُمغتـرب
رنَّ جرس الباب طويلاً ، نهضت المرأة من نومها منزعجة ، نادت على الخادمة بصوت عال ، لم يأتها جواب ، أزاحت الغطاء عن جسدها بتأفف ، اتجهت صوب الباب الخارجي ، فتحته على عجل ، اصطدمت عيناها بعيني الطارق ، لمحت ومضة انبهار في فصّي عينيه ، وارت الباب بسرعة ، اكتشفت أنها لم تضع روباً على منامتها الشفافة التي بالكاد تربطها من الكتفين حمّالتان رفيعتان ، قالت بصوت ناعس من خلف الباب : ماذا تريد ؟!
أجاب بلهجة يمنية : لقد حضر سائقكم بالأمس إلى الورشة ، أخبرني بوجوب الحضور لإصلاح بعض الأعطاب بالحمام .
طلبت منه الانتظار ، صاحت على الخادمة مرة أخرى ، لم تسمع رداً ، سبّتها في نفسها : أين تكون قد ذهبت هذه اللعينة ؟ وضعت روباً فوق ردائها ، عاودت الرجوع صوب الباب ، فتحته على مصراعيه ، صوّبت ناظريها نحو قدمي العامل ، أمرته بخلع نعليه وتركهما عند العتبة ، دخل إلى الصالة ، خطت قدّامه لتدله على مكان الحمام ، شقَّ بنظراته الظامئة انسياب سلسلة ظهرها ، ميوعة مشيتها ، اهتزاز استها ، وضع حقيبته الحديدية على الأرض ، أخذت تبيّن له الأدوات المحتاجة إلى إصلاح ، كان ينظر إليها مفتوناً ، كل ما في أعماقه ينبض رغبة ، شتمها في سره : يا لها من امرأة ، ألا تدرك أن فيها أنوثة طاغية ؟! لماذا لا تداري فتنتها ؟ لمَ لا تستر بهاءها ؟! ربما تظن أن الشهوة مقتصرة على طبقة معينة من البشر !! يأخذ شهيقاً طويلاً ، يسبّل عينيه ، يخترق صوتها حاجز تأملاته ، ينبه حواسه الغافلة قائلة بتعالٍ : لماذا لا ترد ؟ سألتك كم سيكلفني إصلاح هذه الأعطاب ؟
– لن نختلف سيدتي .
تتركه ينجز عمله ، تتناهى لسمعه أغنية راغب علامة : (( علمتيني أحب الدنيا .. علمتيني أحب .. )) مبثوثة من جهاز التسجيل ، وقد أخذت المرأة تدندن معها بنيرة عذبة . يراقب بطرفي عينيه جانباً من حائط غرفة نومها ، وقد ارتسم فيه ظلها ، متمايلاً بانسجام مع النغمات . يحاول ضبط انفعالاته ، يتلهّى في شغله ، يمسُّ وجهه عبق أنثوي أخاذ ، يرفع رأسه ، يراها تمرق بمحاذاته ، وقد تبعثر شعرها الأسود الغجري على ظهرها وكتفيها في دلال ، يتنهّد يلاحقها بنظرات منكسرة : ما أروع أريجها !! تطوف في ملامحه ابتسامة شهوانية ، يطردها ، تفاجئه المرأة واقفة عند عتبة الحمام ، رافعة ذراعها اليمنى ، وقد أسندت كفها إلى حلقة الباب قائلة : هل انتهيت ؟
– نعم سيدتي ، بإمكانك تجريبها جميعاً .
تخطو المرأة إلى الداخل ، تنحني لتتفحص الأدوات ، يحملق فيها ببلاهة ،يلامس كتفها منكبه بعفوية ، تتراجع في حذر ، تضطرب أساريره ، يرخي جفنيه ، تيار ساخن يكوي جوفه ، تنفحه أجره ، يخرج مهرولاً ، يتنفس الصعداء .
في نهاية النهار قفل راجعاً إلى غرفته ، يبدو على قسماته الإرهاق ، تطلّع إلى شكله في المرآة المشروخة المعلقة بجوار مخدعه ، إنه بالكاد تجاوز الخامسة والعشرين ، ما زال شاباً يافعاً ، كيف يمكنه تحمّل وجع وحدته ؟! أدار حدقتيه في سقف الحجرة ، في جدرانها المتآكلة من الرطوبة ، أطلق آهة متأسّية : تباً لصاحب الورشة ؟ إنه لا يرحم ، منذ التاسعة صباحاً لم أتوقف عن العمل سوى نصف ساعة ، لتناول لقمة الغذاء . آه كم أشعر بالإعياء !. ألقى بجسده المنهك على فراشه المعفّر ، مدَّ يده تحت الوسادة ، أخرج صورة صغيرة . تحوي امرأة وثلاثة أطفال ، يقبلها ، يدقق بإمعان في المرأة : جميلة زوجتي ، بل إنها أجمل من المرأة التي كنت عندها هذا الصباح، يتحسّر ، كن أين هي الآن ،وأين أنا ؟يتذكّر حوارهما الأخير قبل سفره : كيف ستتصرف إذا دهمتك رغباتك الفطرية ؟!.
– سأروضها !!
– أجابته لحظتها وعيناها غارقتان في مرارة الخوف : هل الرغبات تروّض ؟. إنها حاجة طبيعية كالطعام والشراب !!
– لا تخافي ، بإمكاني المقاومة ، نستطيع محاصرة أهوائنا بإرادتنا !!
يُسدل ستارة عينيه ، يحاول النوم ، تبرز صورة المرأة في عتمة أفكاره ، نهداها النافران ، لحمها الغض ، قدّها المتناسق ، قامتها الهيفاء المثيرة ، شعرها المتمرد الذي ينادي عمّن يكبحه ، نزعته تغلي ، تفور ، يشعر بأطرافه ترتعش ، جسده يتصلّب ، يدسُّ ذراعه تحت ثوبه ، يتحسس بأنامله مكامن شبقه ، يخمدها بهوادة .
عند الصباح وهو ذاهب لعمله ، بالقرب من المركز التجاري الكائن بحيّه الشعبي ، لمح إحدى البائعات الإفريقيات السود ، جالسة على الأرض ، مسندة جذعها العلوي إلى الحائط ، مادّة رجليها ، وقد باتت قبالة وجهه تشققات كعبيها ، تفترش على الأرض عدة حاجات من حلوى وغيرها ،وقد تجمّع الذباب عليها ، كانت تهشه بطرف طرحة رأسها البالية ، موارية كرشها تحت عباءتها ، وقد تدلّى ثدياها المترهلان قرب خصرها ، تنزلق في ممريهما حبات عرق متلاحقة ، تقوم بمسحها بمنديل مجعد ، تحشره بين هنيهة وأخرى في مغارتيهما ، ثم تعاود إخراجه مبللاً ، اقترب منها ، خنقت أنفاسه رائحة عرقها النّفاذة ، كانت مغايرة لعبير المرأة التي التقى بها بالأمس !! هزَّ كتفيه : لا يهم ، عند الجوع الشديد يتشابه مذاق الأطعمة . يسيل لعابه ، يُدني وجهه منها ،غمزها بعينه ، يدسُّ في كفها ورقة مالية زهيدة ، تقبض عليها بغبطة ، تخفيها في حمّالة صدرها ، تلمع عيناها تحت وهج الشمس ، تلملم حاجاتها ، تمسح مخاط أنفها بكمّها الوسخ ، وفي استكانة تجرُّ ساقيها خلفه !!
•••
الخـرزة الـزرقـاء
( حدثت وقائع هذه القصة في مكان ما بأحد البلدان العربية )
كانت تتدلى من عنق المرأة سلسلة ذهبية ، معلقة في نهايتها خرزة زرقاء ، توارت في حيرة بمضيق نهديها اليافعين ، توقفت المرأة عند مبنى متهالك ، تحيط به حديقة جدباء ، كان بابه العتيق مغلقاً ، تلفتت برأسها يمنة ويسرة ، باحثة عن جرس الباب ، وجدته منزوعاً من مكانه وقد برزت أحشاؤه الممزقة نصب عينيها ، طرقت الباب بباطن كفها ، جاءها صوت أجش من خلف الباب :من هناك ؟!
– أنا !!
– يرد الصوت – منْ أنتِ ؟!
– أنا من ضيّعت في الأوهام عمرها !!
يفتح الرجل شقّاً صغيراً من الباب ، تدلف المرأة من خلاله إلى الداخل ، تختار أقرب كرسي ، تلقي عجيزتها عليه ، ترمق الرجل بطرفي عينيها ، ترى شبح ابتسامة خبيثة مرسومة على أساريره ، تضع ساقاً على ساق ، يحملق الرجل في رسغي ساقيها بشهوة فاضحة ، تلاحظ نظراته المكشوفة ، ترخي ذيل ثوبها ، تطوف بحدقتيها أرجاء الغرفة . هناك سرير حديدي مزوي في إحدى الزوايا ، عليه مرتبة قديمة متناثرة على سطحها بقع سمراء ، ملقاة عليها مِخَدة ريش مهترئة . في الناحية الأخرى تطلُّ دورة مياه صغيرة ، تفوح منها رائحة بول عفن ، وفي الناحية الأخرى يوجد مكتب وثير ، قديم بعض الشيء ، رصت عليه عدة شهادات ، مكتوب بعضها باللغة العربية ، وبعضها الآخر بلغات مختلفة ، داخل إطارات مزخرفة .
تقول بامتعاض : ها قد أتيت !! ماذا تريد مني ؟! ما هي تهمتي ؟! يجلجل الرجل بقهقهاته العالية في أرجاء المكان ، يجلس خلف كرسيه الجلدي ، يرفع ساقيه ، يضعهما فوق سطح مكتبه ، يتعمّد في وقاحة ظاهرة ، وضع ظاهري نعليه في اتجاهها ، يتفحّص تعابير وجهها ، يقول بلهجة تهكّم : ألم أقسم لكِ أنك ستأتين من تلقاء نفسك ؟! هل اقتنعت أنني الأقوى ، وأنك مجرد ريشة هشة أستطيع سحقها بأصابعي ، أم ما زلت تكابرين ؟!
تجيب بنبرة تطفح بالمرارة : القوة لا تعني أن الحق بجانبك . ربما تكون قد كسبت الجولة الآن ، لكن لا زالت هناك جولات أخرى ، ولا بدّ أن يجيء اليوم الذي ترفرف فيه راية الحق بسماء البشرية . لست وحدك الحاذق في هذه الدنيا !!
يتطلّع بغيظ في هيئتها ، يُمسك قلمه المُذهب ، يرسم خطوطاً دائرية على ورقة بيضاء موضوعة أمامه ، تعاود سؤاله في ألم مكتوم : ما هي تهمتي ؟!
يحدّجها بنظرة متعالية : أنت متهمة بإثارة الشغب في مجتمعك المسالم !!
– أي شغب ؟! أنا مواطنة صالحة .
– بل أنت امرأة متمردة ، تقومين بتحريض بنات جنسك للثورة على أوضاعهن الاجتماعية التي تعوّدن عليها ، وتشجيعهن على المطالبة بحقوق ظلت قروناً طويلة مقتصرة على عالم الرجال !!
– هذه جريمة في حقّي كإنسانة ، أنا أحلم بمجتمع يسوده الإنصاف وتنقية الأجواء القاتمة . أريد للجميع ذكوراً وإناثاً التنفس عبر قنوات من الحريات المسؤولة .
– كفاك خطباً وشعارات ، لماذا تصرين على نشر رياح الشقاق في وطنك ؟! النساء راضيات بحياتهن ، منصاعات بملء إرادتهن لظروفهن دون ضغوط من أحد ،ألا تدركين أن تحفيزهن على الثورة سيحطم الهيكل الأسري ،مما سيؤدي إلى تفكّك بنية المجتمع ؟!
– أنت تزوّر الحقيقة ، لكنني موقنة أن الليل سينبلج عن نهار يفوح من نسماته عبق النقاوة والطهر .
تدمع سحابتا عينيها، تغطي وجهها المصفر بكفّيها المرتعشتين ، يراقب متشفّياً بداية انهيارها ، يتجه صوبها ، يقترب بوجهه منها ، تحس بأنفاسه الملتهبة تلفح جلدها ، يندفع بشبق نحوها ، يحاول تعرية أنوثتها ، تمزيق قميصها ، تقاومه بشراسة ، تدفعه عنها بعنف ، يسقط على الأرض ، تتراجع مذعورة ، العرق يتصبب من مسامها ، تسند ظهرها إلى الحائط ، تزيح خصلة واجفة من شعرها سقطت على غفلة بجانب جفنها ، ترشقه باحتقار ، تصيح في وجهه : أنت نذل تستغل منصبك لإيقاع الشرفاء في مصيدتك ، لا تستهن بي ، أنا امرأة تشعُّ صلابة .
يُعاود الوقوف ، يرتب هيئته ، يرمق بقسوة السوط المعلّق على الحائط خلف مكتبه، تلتقط أفكاره ،تقول بسخرية : اجلدني به إن كان ضربي سيطفئ رغباتك الحيوانية !!
يقطّب ما بين حاجبيه ، تلمع عيناه بوميض وحشي ، يشقُّ دوي ضحكاته صمت الأجواء المشوشة ، يعلّق ساخراً : لا ،لن أجلدك. الجراح تلأمها الأيام ، أنا أريد تحطيمك ، أصنع بداخلك ندبة لا تمحوها السنون ، ولا تطفئها دورة الزمن .
ينادي بصوت جهوري حارسه : تعال ، اجلب ورقة وقلماً ، دوّن كل كلمة سأقولها بدقة متناهية ، في يوم .. وتاريخ.. تمّ استجواب المتهمة ، وإثبات الاتهامات الموجهة لها كافة ، وعلى أثره نطالب بتوقيع أقسى العقوبة عليها لتكون عبرة للأخريات من أمثالها .
يأمر الحارس بتقييدها ، يغمس الحارس يده في جيب سترته ، يخرج حلقتين من الحديد ، تمدّ ذراعيها في كبرياء ، يضع الحارس بجلافة الحلقتين في معصميها ، تحس بوخز الألم . كان الرجل يتطلّع إليها منتشياً ، لهب إنسانيتها المجروحة ينضرم في أعماقها ، تندفع حمم براكين آدميتها على السطح ، تقترب منه ، تبصق في وجهه ، يرفع كفه الغليظة ، يهوي بها على صدغها ، تفقد توازنها ، تترنح ، تقع ، تلتقط عيناها الهَلِعتان سلسلتها الذهبية المقضومة ، وقد رقدت بجانبها خرزتها الزرقاء ، خيّل إليها أن ثمة أنّات أنثوية تصدر عنها .