الشيطان يُحِبُّ أحياناً

الشيطان يُحِبُّ أحياناً

الفصل الأول

(5)
 
عاود مالك شعوره بالوحشة. غفت عيناه. أستيقظ استيقظ على حركة في بالغرفة. كانت الممرّضة قد عادت من جديد تحمل بين يديها صينيّة طعام العشاء. قالت له وهي ترفع ظهر السرير: ” «بابا، إنتَ لازم ياخد الدوا علشان يعرف ينام، وكمان لازم يغيّر حفاضه»”. نظر إلى ساعة الحائط المعلقة أمامه. كانت تُشير إلى السابعة والنصف. استسلم كالعادة لأوامرها. ساعدته على تناول علبة صغيرة من الزبادي المنزوع الدسم مصحوبة بقطعة من الخبز الأسمر، وشريحة صغيرة من الجبن الأبيض الخالي الدسم. بلع بعدها أقراص الدواء. وضعت كمامتها. أزاحت اللحاف عن جسده. خلعت عنه رداءه. فتحت جانبي الحفاضة. حشرت رأس ذكره الذي فقد صلاحيته في فتحة ” «المبولة»”. أغمض مالك عينيه. افرغ بول مثانته فيها. وضعت الممرّضة ” «المبولة»” على الأرض. كرّرت معه نفس طقوس الصباح. قالت له باسمة: ” «مستر، إنت ريحتك دحين كتير حلو»”. حدّق فيها. شرد بذهنه صوب إلى البعيد. ” «هذه البلهاء تجهل بأنّني كنتُ أشتري أغلى العطور الفرنسيّة. ، أنني تعوّدتُ جلب أجود أنواع دهون العود والعنبر والمسك من الهند. خصّصتُ لها ركناً في ببيتي. تفنّنتُ في مزج هذه الدهون الشرقيّة. كنتُ أملك مهارة خاصّة في خلط نسبة كلّ دهن، ليخرج من تحت يدي عطراً متميّزاً. أطلقتُ على كل واحد اسماً معيّناً. هناك عطر أسمّيته لحن الخلود، وهناك ما أطلقتُ عليه اسم ساحر، وهناك ما أطلقتُ عليه اسم عتاب، وهناك عطر أطلقتُ عليه اسم مقادير لإعجابي بأغنية طلال مدّاح. اشتهرتُ بها بين أصحابي ومعارفي»”، قال في نفسه. أشفق على حاله.
حملت الممرّضة المبولة. أفرغتها في كرسيّ الحمّام المُجاور للغرفة. سمع مالك صوت ضغطة ” «السيفون»”. عادت من جديد. وضعت المبولة تحت السرير. أحكمت بعدها إغلاق الستائر. أضاءت الأباجورة العاموديّة الواقفة عند الزاوية اليمنى. أطفأت نور السقف. تأكدت من موضع زرّ النداء في بمكانه، ونبّهت مريضها إليه. أوصته بالضغط عليه، إذا ما أراد شيء شيئاً أثناء الليل. وارت باب الحجرة. خرجت. لاحق بسمعه وقع خطواتها حتّى تلاشت. حضرته صورة زوجته عواطف. ترحّم عليها. عاوده الشعور بالندم. تحمّلته كثيراً. لم تُعلن يوماً، تذمّرها على من إهماله المتواصل لها. لم تُبدِ امتعاضها على من هجرانه فراش الزوجيّة طوال أسابيع. غفرت له زلاّته التي ارتكبها، طوال عشرته معها. كان واثقاً في بقرارة نفسه بأنها تعرف الكثير عن مغامراته النسائيّة! عيناها كانتا تفضحان دواخلها. يرى دوماً وميضاً من العتاب المخلوط بالأسى، يطلّ من محجريهما. تمنّى لو أنّها دافعت عن حقّها كزوجة. لو واجهته ذات صباح بسقطاته. لو صرخت في وجهه، طالبة منه وقف سيل إهاناته لها. لكنّها لم تفعل! آثرت التقوقع على ذاتها. ربّما لو حزمت أمرها وفعلت، لأيقظت ضميره النائم، الذي علا صوت شخيره. أخذ يُحاور نفسه. يسألها.. ” «ألا يقولون بأن إنّ المرأة بدهائها ومكرها الأنثوي، قادرة على ترويض رجلها مهما بلغت درجة فلتانه! أنها تستطيع جعله يرى كلّ نساء العالم مجتمعات فيها! ؟ هراء! كلها عبارات مطاطيّة، وسخيفة، أطلقها البعض لدفع المرأة الاستسلام لأنانية الرجل، ولغضَّ الطرف عن نزواته! لماذا لم يخطر على بالي ولو مرّة، أن زوجتي ربما كانت من النوع الذي يستحلي دور الضحيّة! عرفتُ نساءً كثيرات على هذه الشاكلة! لا، لا أريد أن أظلمها. لقد غدت بين يدي خالقها. هل القدر أراد أن يُعاقبني بسبب ما اقترفته بحقّها؟ هل دعت عليَّ زوجتي في وقت كانت فيه أبواب السماء مفتوحة؟ هل كانت زوجتي تُحبّني، أم أنني كنتُ رفيق درب والسلام؟ تُرى هل بقيت معي كلّ هذه السنوات من أجل ابنها، أم لأنها تحمل لي مشاعر حبّ حقيقيّة في بقلبها؟ لماذا أشغل فكري بهذه الأمور التي لن تُقدّم ولن تؤخّر شيئاً؟ فات الأوان على ترميم ما هدمته بيدي!»”. ألحّت عليه مشاهد الماضي. تذكّر كم فرحت أمّه وقتها حين اتّصل بها من القاهرة، راجياً منها المجيء على عجل. أخبرها بأنّه أخيراً وجد الفتاة المناسبة له. دخلت قلب أمّه لحظة رأتها. شمّت في جلدها، رائحة وفاء ونقاء نادرين. لم تعبأ بعمرها. لم يعتريها يعترِها القلق. كان الفارق ضئيلاً، وبالتالي لن يُشكّل يكون عائقاً أمام لنجاح الزواج. لم تُمارس سلطتها كحماة تُريد لابنها، امرأة كاملة الأوصاف! طردت من عقلها هذه الأمور التافهة، التي تشغل بال أغلبيّة الأمهات. كانت بداخلها سعيدة بأن ابنها الأكبر سيُصبح زوجاً وربّ أسرة. مالك ابنها الأكبر. أنجبت بعده بسنوات قليلة أخوه أخاه زكي. لحقته بفارق سنة ونصف أخته عزّة. أجهضت بعد عزّة مرّتين. أرسل لها القدر رسالة حازمة بأن ابنتها ستكون آخر العنقود. حمدت الله على عطيّته. انصرفت لتربية أبنائها الثلاثة. كان مالك المفضّل لدى والده. ارتأى بعد تفكير طويل كتابة كافة أملاكه باسمه. رغب في أن يكون ولده البكر، هو المسئول المسؤول عن إخوته بعد وفاته. كان زكي أخو مالك لم يزل مبتعثاً بالخارج. سبقته أخته عزّة في الخروج من بيت أبيها. تقدّم لها عند تخرّجها من الثانوية العامّة شابّ من أسرة معروفة. أقنع مالك أمّه بأنّها فرصة لا يجب يجوز تفويتها. وافقت الأم على تزويج ابنتها وهي تخطو في عامها السابع عشر. تكفّل مالك بمصاريف الزفاف. خصّص لها مصروفاً شهرياً بعد زواجها. حرص على إرسال مصروفات أخيه الشهريّة إلى لندن. تُوفي الأب عندما كان زكي يتلقّى تعليمه الجامعي في ببريطانيا. عاد بعد تخرّجه إلى جدّة. اقترن بزميلته التي كانت مبتعثة معه. قدّم له أخاه أخوه مالك المال الذي يحتاج إليه. أسّس به زكي بيت الزوجيّة. استقلَّ بحياته. أصبح مالك يُقيم بمفرده مع والدته. كان متعلقاً بها. يُلبّي طلباتها دون قيد أو شرط. كانت نقطة ضعفه الوحيدة بعد وفاة والده. اشترط على والد عواطف، أن تقبل زوجته العيش مع والدته تحت سقف بيت واحد. قال له أبوها: ” «لا مانع عندي. لو إن لم تكن رضيّاً في أمّك، فلن تكون وفيّاً مع ابنتي»”.
 
كان البيت مكوّناً من طابق واحد. واجهته الخارجيّة مبنيّة من الرخام الممزوج باللونين البنّي والبيج، وبقيّة البيت مطليّيُّ باللون الأبيض. مُقام على ارض كبيرة. في الجانب الخلفي من المنزل، تُوجد بركة سباحة واسعة، متدرّجة العمق، ومُغطّاة بسقف بلاستيكي أبيض، عالٍ، يحجب الرؤية عن الفلل المجاورة. بجانب البركة غرفتي غرفتا” ساونا وبخار”. يُحيط بالمنزل سور مرتفع. عند مدخل البيت على الجانبين، تقف شجرتان كبيرتان تُظللان حوش البيت. تقع الفيلا على طريق المدينة النازل، خلف مركز المساعديّة التجاري، الواقع بحيّ الحمرا. هيّئ هيّأ مالك البيت لعروسه. أعاد طليه من الخارج ورمَّمه من الداخل، بينما ترك مسألة تجديد الأثاث لعروسه.