هل أتاكَ حديثي؟
هل أتاكَ حديثي؟
(9)
متى بدأ زوجي يخونني؟! تحديدا لا أعرف! كنتُ أسمع همسا من حولي أنّ زوجي أضحت له علاقات نسائيّة. تجيئني مكالمات مجهولة المصدر على هاتف منزلي بوجوب أخذ حيطتي. كنتُ أقفل سمّاعة الهاتف. أرتدي ثوب الزوجة العاقلة. أرمي بكامل قوتي كل ما يُقال خلف ظهري. أعترف بأنني خرجتُ مرّات عن طوري، محاولة إطفاء نار الغيرة المستعرة في قلبي. أخفي وجهي بالنقاب. أقصد عيادته. أجلس في قاعة الانتظار. أتفرّس بعينين ثاقبتين السيدات الجالسات. أسترق السمع لما يقلن. أغلبهنّ كنّ يُكررن نفس الأسئلة على بعضهن البعض وعن أسباب مجيئهن.. هل ترغبين في تكبير أو تصغير أو شد ثدييك؟! هل تريدين حقن وجهك بالبوتوكس؟! هل تريدين نفخ شفتيك؟! أيضاً هناك نسوة يحضرن إلى عيادته وهنّ مبالغات في تبرجهنّ، ينصت للأحاديث المُدارة دون أن يحشرن أنفسهن فيها. بعضهنّ كنّ يثرن ارتيابي، بتغطية هيئتهن من الرأس إلى أخمص القدمين. توقفتُ بعد فترة عن ارتياد عيادته. أصابني الضجر من تقمّص دور المخبر السرّي. سلكتُ طريقاً آخر. حاولتُ اختراق هاتفه النقّال، بقراءة حافظة رسائله، أو مراجعة قائمة الأرقام المدونة، لم أنجح. حرص على وضع رمز سرّي للدخول. حرتُ ماذا أستطيع فعله!! كيف يمكنني محاصرته؟! هل أترك عملي وأرافقه في سفرياته؟! هل أطارده إلى كل مكان يذهب إليه؟! عندما وقع في حب المضيفة التونسية، تحركّت حاستي السادسة. شعرتُ بأنها علاقة استثنائيّة، وليست مثل سابقاتها. حفّرتُ وراءه. تأكدتُ من شكوكي. أنه غارق حتّى أذنيه في حبّها. رجف قلبي وقتها. فعلت المستحيل كي لا يضيع من يدي. لجأت إلى العرّافين. انغمستُ في دهاليز الأسحار. كنتُ أريد أن أستعيده بأي شكل وعلى أي طريقة. هاتفتُ ولداي أحمد ومحمد، كانا قد سافر في بعثة دراسيّة لكندا. أحمد تخصص في جراحة التجميل كأبيه، ومحمد تخصص في طب جراحة الأسنان. زعقت فيهما عبر الهاتف. قلتُ لهما أبوكما يعيش مراهقة متأخرة. طلبتُ منهما أن يأتيا على عجل، قبل أن تقع الفأس في الرأس. واجها والدهما. وقع شد وجذب بينهما. لم يفلحا في ثنيه عن قراره. ترجياني أن أسافر معهما. رفضتُ بشدة. قلتُ لهما هذا ليس حلاً عادلاً، كما أنني لا أطيق مناخ الغربة. ودّعاني وعادا إلى كندا. تركاني غارقة في يمّ أحزاني أجدّف بمجدافين متهالكين وحدي. هكذا بكل بساطة تبخّر زوجي من حياتي. جاءت أخرى لتأخذ حصيلة عمري بغمزة من عينها. شعرتُ أنني صرتُ مثل رمال الشط الناعمة، يلعب معها البحر لعبة المد والجزر وهي صاغرة لا تُقاوم طيشه. لا أعرف ما فائدة أبنائنا إن لم يقفوا بجانبنا. يُدافعون عن حقوقنا. يواسوننا في مصابنا!! سيطر عليَّ حينها انطباع غريب. أن أولادي خرجوا عن طوعي.. أنهم أبناء أبيهم!! عدتُ فهدأت. أيقّنتُ أن ظروف الحياة تُجبر أبناءنا الانحراف عن المسار الذي ربيناهم عليه، لكن هذا لا يُدمغ جحودهم في حقّي. أتذكّر مرّة وأنا مسافرة إلى القاهرة لرؤية أمي، جلست بجانبي في الطائرة امرأة طاعنة في السن. تجاذبنا أطراف الحديث. كانت قد جاءت إلى جدة لأداء العمرة وزيارة قبر الرسول. تبادلنا أطراف الحديث. سألتها
“هل لديكِ أبناء؟!”
أجابتني “ولد واحد. كان يعمل مرشدا سياحيّا. أحب فتاة أستراليّة. تعرّف عليها عندما قدمت إلى مصر كسائحة. تعلّق بها وتركني وحدي وسافر معها وتزوّج بها وأستقرّ هناك. مضى على غيابه ما يُقارب العشرة سنوات، لم يُفكّر أن يحضر ولو مرّة واحدة لزيارتي أو يدعوني للذهاب إليه. أخاف أن أموت دون أن أراه وأداعب أحفادي. يُهاتفني من حين وآخر. يرسل لي في نهاية كل شهر مبلغ من المال، استطعت أن أدخر جزء منه لأداء العمرة”.
تأثرت بحديثها، قائلة: “الأبناء نعمة من الله. الحمد لله أنا لديّ ولدين، وكنتُ أتمنى لو أعطاني الله بنت، لكن الظروف حالت دون تحقيق ذلك!!”.
علّقت بتهكم “وما فائدة الأبناء؟! الأم تحمل وترى الموت بعينيها أثناء الولادة، وتسهر الليالي ترعى أبناءها إذا مرضوا، وتحرم نفسها من أشياء كثيرة لأجلهم، ثم يكبرون ويتركون البيت ويتزوجون وتُصبح الزوجة والأبناء كل حياتهم، وتصير الأم عبئا عليهم لا يتوددون إليها ولا يتواصلون معها إلا من منطلق واجبهم الأسري، حتّى يأتي الموت ويخلصهم من مسؤولياتهم تجاهها”. رفعتُ حاجبيّ عجبا قائلة”هذا ظلم كبير في حق الأبناء. أولادنا كما نحن بحاجة إليهم عندما تطرق الشيخوخة أبوابنا، يظلون هم أيضا بحاجة لحبنا وحناننا”.
علّقت بسخرية “هذا كلام نواسي به أنفسنا كي لا نواجه الحقيقة الساطعة، أن دورنا ينتهي من حياة أبناءنا بمجرّد أن يحملوا حقائبهم وينامون خارج سقف بيوتنا”.
تُرى هل ما زالت هذه المرأة المسنّة على قيد الحياة، تنتظر دخول ولدها عليها في أي لحظة، أم ماتت وحيدة في فراشها ودموع الأسى تُبلل وجهها؟!
هناك من يرى مثلي بأن الحياة تشبه لعبة الشطرنح، لا غالب فيها ولا مغلوب إلى الأبد. أن المنتصر في لعبة اليوم والقادر على تحريك القطع بشطارة، سيأتي غدا من هو أمهر منه ويُطيح بعساكر خصمه. لا يُوجد على وجه الأرض من يستطيع أن يحتفظ بلقب فائز أبد الدهر!! حتّى الأمس القريب، كنتُ أعتقد بأنني أمسك بإحكام خيوط حياتي. ما حدث لي جعلني أرضخ طواعية لأحزاني. آثرتُ الانعزال عن الناس. انقطعت صلتي بمعارفي وصاحباتي بعد طلاقي. دخلتُ في تصفية حسابات مع ذاتي. قدّمتُ استقالتي من عملي. حاولت صديقاتي المقربات رابحة وعواطف وإيمان وفاطمة مواساتي في فجيعتي وإخراجي من قوقعتي. لم ينجحن. رفضتُ الرد على هواتفهن. سخّرتُ وقتي لتطبيب أوجاعي. سيطرت علي في لحظة ضعف فكرة الانتحار. أفرغتُ علبة الأقراص المسكنة في كفّي. يد خفيّة هزّتني. أيقظتني من هلوسة جنوني. حضرت فجأة صورة شريفة في بالي. فتاة مسكينة ارتبطت حكايتها بذكرياتي في واحدة من سفريات الصيف.استيقظنا صبيحة ذلك اليوم مبكرين على غير العادة. زعيق صفّارات سيارات الشرطة تصدح في الحي الذي سكنا فيه. خرج أبي مسرعا. سأل
تُرى هل ما زالت هذه المرأة المسنّة على قيد الحياة، تنتظر دخول ولدها عليها في أي لحظة، أم ماتت وحيدة في فراشها ودموع الأسى تُبلل وجهها؟!
هناك من يرى مثلي بأن الحياة تشبه لعبة الشطرنح، لا غالب فيها ولا مغلوب إلى الأبد. أن المنتصر في لعبة اليوم والقادر على تحريك القطع بشطارة، سيأتي غدا من هو أمهر منه ويُطيح بعساكر خصمه. لا يُوجد على وجه الأرض من يستطيع أن يحتفظ بلقب فائز أبد الدهر!! حتّى الأمس القريب، كنتُ أعتقد بأنني أمسك بإحكام خيوط حياتي. ما حدث لي جعلني أرضخ طواعية لأحزاني. آثرتُ الانعزال عن الناس. انقطعت صلتي بمعارفي وصاحباتي بعد طلاقي. دخلتُ في تصفية حسابات مع ذاتي. قدّمتُ استقالتي من عملي. حاولت صديقاتي المقربات رابحة وعواطف وإيمان وفاطمة مواساتي في فجيعتي وإخراجي من قوقعتي. لم ينجحن. رفضتُ الرد على هواتفهن. سخّرتُ وقتي لتطبيب أوجاعي. سيطرت علي في لحظة ضعف فكرة الانتحار. أفرغتُ علبة الأقراص المسكنة في كفّي. يد خفيّة هزّتني. أيقظتني من هلوسة جنوني. حضرت فجأة صورة شريفة في بالي. فتاة مسكينة ارتبطت حكايتها بذكرياتي في واحدة من سفريات الصيف.استيقظنا صبيحة ذلك اليوم مبكرين على غير العادة. زعيق صفّارات سيارات الشرطة تصدح في الحي الذي سكنا فيه. خرج أبي مسرعا. سأل البوّاب عن سبب تواجد الشرطة! أخبره أن الخادمة التي تعمل بالمنزل المجاور، وجدتها ربّة البيت ميتة على أرضيّة المطبخ. أثبتت التحقيقات الأوليّة أنه لا وجود لجُنحة جنائيّة. تأثرتُ بموتها. كنتُ ألمحها تمرُّ من أمامي وأنا واقفة في الشرفة، أو عندما أدور بالدراجة في الحي. تبتسم لي ابتسامة عريضة وتكمل طريقها. كانت ضئيلة الحجم مثلي. تمشي على أطراف أصابعها. نظراتها شاخصة إلى الأعلى كأنها تودُّ أن تمسك خيوط قدرها بيديها. تضع على رأسها دوما منديلاً مزركشا. تنصّتُ على حديث خادمتنا وهي تحكي لأمي بنبرة حماسيّة، أن العاملات بالحي يعلمن أن الفتاة ذات الخمسة عشر ربيعا قد أقدمت على الانتحار بشرب سم فئران، بعد أن تخلّى عنها الشاب الذي أحبته. اكتشفت أنها حامل منه، فذهبت إليه تترجاه أن يستر عليها. تنكّر لها ولطفلها. آثرت أن تدفن معها فضيحتها. أن تنفض عن عائلتها وجع غسل عارها. ظلّت هذه الفتاة تحضرني فترة في فكري. غدت في نظري صورة طبق الأصل من تهاني التي قتلها خالها في العراء ليغسل عاره في فيلم “دعاء الكروان”. قصتهما متشابهة. كلتاهما كانتا ضحية رجلين استغلا فقرهما وجهلهما. احترتُ في فهم نفسي! لم أقترب من الفقر ولا الجهل طوال حياتي، إذن لماذا جعلتُ من نفسي ضحية؟!. هل العشق مُدمّر للمرأة، وأنه خُلق لتلبية أطماع الرجل، أم أن المرأة بطبعها لا تستطيع أن تحيا بدونه وتستمتع بالدوران في محيطه؟!
داهمني الكرى أيام كثيرة. أجدني أدور في أرجاء البيت طوال الليل. أدلف إلى غرفة مكتب زوجي. كل شيء ما زال على وضعه ما عدا مكانه الشاغر! أجلس على مقعده. أفتح أدراج مكتبه الفارغة. أتسكّع في ردهات الماضي. تمرُّ بي صور مضيئة. أتذكّر حين تعرّض لآلام في كليته، نتيجة وجود حصاوي فيها. ظلّ رقيد الفراش شهراً كاملاً. أخذتُ إجازة من عملي. تفرّغتُ لرعايته ليل نهار. قال لي بعد أن تخلّص من علّته: “أنتِ زوجة صبورة يافائزة. أنا زوج محظوظ بهذا القلب الكبير”.
أخذت تلال الغضب ترتفع في فؤادي. سعير الكره يحرق أعماقي. يُلاحقني كل ليلة كابوس مرعب. أنني أتسلل ليلا إلى بيت طليقي. أغمد خنجرا في قلبه. أكرر فعلتي بطعنه في أنحاء متفرقة من جسده. أصحو فزعة وأنا سابحة في عرقي. مشهد الدم المتدفّق يُغطّي يديّ وملابسي. تغرز الهواجس مساميرها المدببة في رأسي، بمجرد أن أضعها على الوسادة. خشيتُ الوصول لحافة الجنون. سمعتُ عن طبيبة نفسية ذائعة الصيت، مصرية الجنسيّة، تعمل في إحدى المستشفيات الكبرى. حصلت على موعد معها بعد مشقّة. استقبلتني باشة في عيادتها. كانت مقاربة لسنّي. فرعونيّة الملامح بسمارها القمحي وشعرها الأسود المتعرّج وعيناها المنفرجتان والمعلقتان برموش هدباء. سألتني عن سبب الزيارة. أخبرتها بقصتي إلى اللحظة التي أطلق فيها الحكم صفّارة النهاية. حكيتُ لها عن حلمي. عن ساعات نومي القليلة، ودموع الغل تُبلل وجهي. كتبت لي حبوب مهدئة تساعدني على النوم. حددت لي الزيارة المقبلة بعد أسبوعين. بعد مرور عدة أسابيع على زياراتي المتكررة لها، بدأ نومي ينتظم. حلمي تقلُّ مرّات عرضه. قالت لي بنظرة مطمئنة: “الآن أستطيع القول بأنك قد بدأت تتجاوزين محنتك “. في زيارتي الأخيرة، سألتها بصوت يغمره القلق: “هل سأعود كما كنت؟! لقد اشتقتُ إلى فائزة. أريد فائزة أن تعود لأحضان فائزة”.
تأملت صفحة وجهي. سرحت هنيهة. أخرجت زفرة طويلة، وقالت:
” صحيح أنا طبية نفسانيّة، ولكنني مررتُ ذات يوم بظروف مشابهة لظروفك. أخذتُ زوجي بعد قصة حب طويلة. بدأت خيوطها تُنسج مع سنتنا الأولى بالجامعة، واستمرّت بعد تخرجنا. تقدّم لخطبتي ثلاث مرّات. في كل مرّة يُواجه بالرفض. رأى أبي أن مستوى عائلته البسيط لا يتناسب مع مكانة عائلتنا العريقة. تحديّتُ أهلي. هددتهم بأنني سأكون مثل البيت الوقف. رفعوا راية القبول. رغب أبي أن يُظهر لي صفاء نيّته وفرحته بزواجي، أهداني شقة الزوجيّة وكتبها باسمي. بعد سنوات قليلة من زواجنا، أكتشف الأطباء إصابتي بالسرطان في ثديي الأيسر. خضعتُ لجلسات طويلة من العلاج الكيماوي. تساقط شعري الطويل. لم ينجح الأمر. أعلن الأطباء على وجوب بتره. صرخت صرخة أدمت قلوب الممرضات اللواتي تجمعن حول سريري. طيّب زوجي خاطري. قال لي بأنه لا يتصوّر حياته بدوني. ظلّ بجواري في المستشفى طوال فترة علاجي. يُخفف مصابي. يُهدّأ من هلعي. في الليلة الأولى لخروجي من المستشفى، كنتُ متشوقة لحرارة جسده. بحاجة ماسة لإرواء عطشي بعد غياب سنة كاملة، قضيتها بين أروقة المستشفى وروائح الأدوية، وسماع آهات المرضى المنبثقة من الحجرات الملاصقة لغرفتي. ليلتها ارتديتُ قميصي الشيفون التايجر الذي يحبه. التصقتُ به. ضممته لأحضاني. بحثتُ عن شفتيه اللتين كنتُ أتحرّق شوقا لملمسهما. وجدتُ سطحهما باردا. لعابه مثل طعم حلوى عطنة انتهت مدة صلاحيتها. لاحظتُ كفّه البارد في الظلام، تتحسس ندبة ثديي المبتور. شعرت برجفة تسري في أوصالي. رغباتي تبخّرت. جسدي أضحى مثل لوحة خشبيّة متآكلة، قابلة للتفتيت في أي لحظة. غطّى وجهه في صدري. قال لي بصوت مكتوم كأنه قادم من قاع بئر مهجور:
“سامحيني. لا أستطيع التعامل مع جسدك في وضعه الجديد. لم يعد يُثيرني. لقد صار غريبا عنّي. حاولتُ التغلّب على أحاسيسي، فلم أقو على ردعها. اغفري لي ضعفي”.
كيف لم ألحظ أنياب حقارته كل هذه السنوات؟! تأكّدتُ ليلتها من نذالته. شعرتُ بأحاسيسي الجميلة قد أصابتها صعقة قوية، أردتها قتيلة في تلك الليلة القاتمة. استجمعتُ أطرافي المتيبسة. قلت له بصوت بارد لا حياة فيه
“أتركني بمفردي الآن”
عند الصباح خرجتُ إليه. كان يجلس على المقعد بمنامته. طلبتُ منه بنبرة جامدة أن يُلملم أغراضه ويرحل. أراد التعليق. صددته بإشارة من يدي. تحاشيتُ النظر في وجهه. مرّت الدقائق ثقيلة علي. لمحته يمر أمامي بحقيبته. أغلق الباب خلفه ومضى. شعرت لحظتها كأنني أنزلق بحياتي نحو قبو اليأس، وأن سنوات عمري الفائتة قد ضاعت سُدى. لا أكذبك القول كانت الرغبة في تدميره مسيطرة على فكري. المثير للسخرية أنه تزوّج بالطبيبة التي كانت تُشرف على علاجي. كفرتُ بكل قيم الحب. كنتُ كمن قرر الإبحار بمركب قديم في عرض محيط عميق، غير آبه بمخاطره الجسيمة. استجمعت بعد فترة قواي. قررتُ ذات نهار خريفي، والأوراق الصفراء تتساقط من أغصانها اليابسة فتتراكم على الأرض، أن أنزع ورقة ذكراه من شجرة حياتي. غفرتُ له أفعاله. صفحت عن سقطته. كان لا بد أن أقوم بهذه الخطوة الملائكيّة كي أصل إلى محطة السلام مع ذاتي. بعد خمس سنوات من طلاقي، قابلتُ رجلا رائعا. كان يعمل معي طبيبا في نفس المستشفى. أخذ يُغازلني. صددته في البداية بغلظة شديدة. لم يكل. أستمرّ في ملاحقتي. صارحني بحبه. أبدى رغبته في الارتباط بي. أقسم لي أنه ليس من الرجال اللذين يهوون مطاردة النساء اللواتي التصقت الوحدة بجلودهن . ذلك اليوم قبلتُ دعوته على الغداء في مطعم جميل يطلُّ على النيل. قلتُ له وعيناي مغروستان في عينيه:
” أنا لست كعامة النساء. أنوثتي ناقصة. امرأة تملك ثديا واحدا فقط”.
يومها نظر بحنو في صفحة وجهي، قائلا:
“الحب إشارة إلهية ونعمة ربانيّة. ما ذكرته لا يعني لي شيئا، ولن يُزعزع قناعتي بك. ما يهمني نقاوة روحك التي أبهجت حياتي”.
اليوم أنا سعيدة ولا أتخيّل نفسي زوجة لرجل غيره. فائزة. بإمكاني تكرار كتابة وصفة جرعات الحبوب المهدئة لك، لكن أنتِ الآن سيدة نفسك. ارمي الماضي خلف ظهرك فلا شيء يجعلنا نستنشق غازات اليأس السامة سوى التقوقّع داخل كهوفه المظلمة، واجترار صور الماضي الأليمة في أذهاننا. استجلاب أطياف الأمس يهدُّ قوانا، يُسلبنا أماننا، يُقتت ضلوعنا، يجعلنا نفقد ثقتنا في أنفسنا، فنسير غير موزونين، كالعاجز الذي يُحاول المشي من جديد فيكتشف أنه غير قادر على التقدّم خطوة واحدة نتيجة خوفه. أجمل الأشياء في حياتنا تلك التي تحدث بمنّة قدريّة. قد تمرّين بخميلة مورقة في طريقك، وتستظلين تحتها هرباً من صهد الحياة، فتنفتّح أمامك طاقة من السعادة بدون أن تدري”.
عدتُ إلى بيتي. رميتُ بقية أقراصي المهدئة في سلة المهملات.
من ص71- ص82
*********************