وسادة لِحُبَّك
وسادة لِحُبَّك
من فصل بدايتي /2:
أثناء حضوري محاضرة دينيّة، أتمنى لو أملكُ الجرأة لطرح السؤال الذي يُورِّق فكري على واحدة من الداعيات، سؤال حول حقي في ممارسة العادة السرية. إن كانت تدخل في دائرة المحرم أو المباح!! كان حيائي يمنعني. في إحدى المرات استجمعتُ شجاعتي. قررتُ سؤال الداعية بعد أن تفرغ من إلقاء محاضرتها. كان مضمون المحاضرة يومها يدور حول العلاقة الجنسيّة بين الزوجين. قاطعَتها إحدى الحاضرات بسؤالها: “هل أدَعُ زوجي يلهو بصدري؟! هل من حقِّه أن يرضع حلمَتيَّ؟!”.
تجهَّم وجه الداعية. أجابتها بنبرة جافة: “هذا الموضع خلقه الله من أجل أطفالك وليس لكي يعبثَ فيه رجلك”.
غُصتُ في مقعدي. كأنَّ لساني التصق بسقف حلقي. كتمتُ سؤالي في سرّي. نقلتُ حيرتي لصديقتي رابحة. أجابتني ضاحكة: “لا عليكِ. لو كان التخيُّل حراما، لأوقع القضاة عقوبة الزنا بنصف نساء الأرض لكونهن يتخيَّلن رجالا في سرائرهن وهنَّ في أحضان أزواجهن. لا تعتقدي أن الرجل وحده من يتخيّل أخريات. بعد سنوات من الزواج تتآخى الأجساد يا صديقتي. تفتر الرغبة. لذا لا بد من مُحفِّز خارجي يبعث الحرارة والدفء في الأجساد التي قتلها صقيع الروتين. البحث عن لحظات حميميَّةٍ في الفراش تُجبر النساء أيضا على مضاجعة رجال غرباء في مخيلتهن. لكن هناك خطوط حمراء لا تستطيع المرأة تجاوزها؛ الخوف من عقاب ربها، والحفاظ على أسرتها من التفكك، ونظرة المجتمع لها إن فُضِحَ أمرها. العيش في دنيا الأحلام هي أقصى ما يحق للمرأة بلوغه. الرجال أوفر حظاٍ منّا، أتدرين لماذا!! لكونهم قادرين على إقامة علاقات محرَّمة على أرض الواقع من دون أن يُحاكمهم المجتمع، أو ينصب لهم المشانق بسبب نزواتهم الطائشة!!” يظهر يا صديقتي أن الحرام له نكهة فوَّاحة، رغم عواقبه الوخيمة الإلهية الصنع!”.
*********
قمتُ بأداء واجب العزاء لواحدة من معارفي. قام زوجها يتوضأ لأداء صلاة الفجر. سمعته يسعل. تناهى إليها صوت ارتطام شيء بالأرض. قفزت من سريرها. وجدته مُلقى على بلاط الحمام والزبد يسيل من شدقيه. صرخت. أدركتْ أنه في النزع الأخير.
أقسمتْ على أنها لن تكون لرجل بعده. اختلستُ النظر إليها وأنا جالسة في صف المعزِّيات. كانت متَّشحة بثوبها ووشاحها الأبيضين، وقد علا نحيبها. شعور خبيث ممزوج بالارتياح ملأ دواخلي؛ أن هناك امرأة غيري تسللت برودة الوحدة إلى فراشها. سرعان ما طردته من ساحة فكري. ما أن مرَّت سنة على وفاة زوجها حتّى سمعتُ أنها ستقترن برجل يصغرها بسنوات. شعرتُ ببركان الغيرة يُعاود الغليان في أعماقي.. كيف تتجرأ هذه الأربعينية على الزواج مرة ثانية ولديها ثلاثة أبناء في سن المراهقة؟! لقد ترمَّلتُ وأنا في نهاية عقدي العشرين، ومع هذا رفضتُ وقتها كل من سعى ورائي، لإرواء ظمئه بمستند شرعي.
التقيتُ بها صدفة في إحدى زياراتي العائليّة. لم أعرفها. بدت أكثر شبابا، ووجهها ينـزُّ نضارة. مالت عليَّ قائلة: “نصيحة من امرأة مجربة. لا تكترثي لكلام الناس. ارتبطي بشاب يصغرك سنّا لتُجددي به صباك. لماذا الرجل من حقه أن يتزوج بفتاة بكر تصغره بعقود بحجة أنه يقتدي برسولنا محمد وقصة زواجه الذائعة الصيت بالسيدة عائشة!! لماذا يُطلقون بسخرية في مجتمعاتنا عن المرأة المتوسطة عمرا، التي تقترن بشاب يصغرها سنّا إنها مُتصابية تُريد أن تعيش زمانها وزمن غيرها؟! أليس من حقنا نحن النساء أيضا الاقتداء بالسيدة خديجة؟! ألم تتزوج الرسول وهو يصغرها بخمسة عشر عاما؟! لا تقولي: لكنها أم المؤمنين!!”. ثم كركرت متابعة وهي تغمز بعينيها: “وقتها لم تكن نبوَّته قد ظهرت بعد. لقد راق لها كرجل. أليس كذلك؟!”. لم أجبها. رميتها بنظرة ناريّة. عدتُ إلى البيت ومئات الأفكار تتخبَّط في رأسي. شعرتُ بحاجتي إلى قرص منوِّم.
من فصل انا:
كنا على وشك الإقلاع. أعلن المضيف وجوب ربط الأحزمة، متمنيا لنا رحلة موفّقة. التفتُّ باسمة صوب صديقتي سوسن القابعة بجواري. خلعتُ وشاح رأسي بهدوء. حشرته في حقيبة يدي. حرَّرتُ عقدة شعري من رباطها. تركتُ خصلاته تنطلق بيسر خلف ظهري. أطلقت سوسن شهقة. حدَّقت في وجهي بدهشة قائلة: “فاطمة! على حد علمي، أنتِ مُحجَّبة منذ زمن!”.
أجبتها بصوت رائق: “هذا صحيح. لكنني قررتُ أن أعيش حياتي بطريقة مختلفة. أرغب يا سوسن أن أرى الوجه الآخر الذي لم أعرفه من الدنيا. أتحرَّق إلى اقتحام أرض لم تطأها قدماي من قبل. أريد أن أتنفَّس تحت الماء من دون أوكسجين صناعي!!”.
ربَّتت سوسن على ظهر كفي قائلة: “أحترم قرارك. من أنا حتّى أقرِّعك أو أحاكمك؟ جميعنا نُولد بصفحات بيضاء ثمَّ تنمو في دواخلنا عقدا كثيرة أثناء تعثرنا في طرقات الحياة. وهذا ليس عيبا ولا خرقا لقانون البشر. المهم أن نملك الشجاعة للتحرر من أغلالنا. أعمارنا أقصر من أن نقضيها في الندب والولولة على ما ضاع منا، أو إهدارها في تعقُّب آثار آثامنا التي أرتكبناها في غفلة من ضمائرنا!”. بلعتْ ريقها مكملة: “سأعترف لك بشيء. نهاية العام الماضي، في فترة احتفالات “الكريسمس”، وأنا في طريقي لبيروت، كان حظي رائعا حين جلس إلى جواري في الطائرة رجل خمسيني. كانت عيناه تخترقان جسدي بجرأة لا متناهية. لأول مرة منذ سنوات طويلة وجدتُ رغباتي تتحرّك. اكتشفتُ أن أنوثتي التي ظننتُ أنها ولَّت إلى غير رجعة لم تزل حيّة تُرزق. عند وصولنا إلى مطار رفيق الحريري رميتُ حقائبي في بيت أختي. خرجت أتسكّع معه في أرجاء بيروت. كأني أتعرَّف إلى مدينتي للمرة الأولى. لم أرفض طلبه حين عرض عليَّ الذهاب معه إلى غرفته في الفندق. قال لي وهو يأخذني بين ذراعيه: “أنتِ امرأة استثنائية. لم ألتقِ من قبل امرأة لديها كل هذا المخزون من المشاعر الفياضة”. طلبتُ إليه بنبرة رجاء أن يُطفئ نور الحجرة. تفرَّس في وجهي قائلا: “لا تحرميني متعة النظر إلى تعابير وجهك. أريد أن أملأ عينيَّ بملامحك واستمتع بالوهج الذي يطلُّ من محجريك لحظة ولوجي فيك”. بكيتُ. تذكّرتُ زوجي. إهماله لي. لحظتها شعرت بأن شبابي الذي دفنته بيديَّ هاتين قد بعث مرة أخرى للحياة بين ذراعيه. أرجوك لا تُصوِّبي نحوي أسهم نظراتك القاسية المليئة بالاتهام! أنا لم أكن يوما امرأة خائنة، ولا امرأة تستحلي مذاق الخيانة!! الخيانة في رأيي رد فعل على أشياء كثيرة نمرُّ بها تجعلنا نسجد عند أقدامها صاغرين دون أن نشعر بتأنيب الضمير أو نأبه بسهام اللوم التي ترشقنا من كافة الاتجاهات!! انتابتني لحظات يأس فكَّرت فيها بالانتحار، لكن علاقتي بغسان منحتني القوة لأكمل حياتي مع زوجي. منذ اللحظة التي التقيته فيها تغيَّر مجرى حياتي. لم يعد يهمني إنْ عشقَ زوجي مئات النساء، لكوني غارقة في حب رجل أضاء البهجة في حنايا قلبي. رجل لا يُلزمني أن أدفع له كل ليلة ثمن انزلاقي لعالم الكهولة، ولا يتركني بلا رحمة في العراء، بمفردي، أتأسَّف على شبابي وانتفض خوفا من صقيع الشيخوخة. عيشي حياتك يا فاطمة. لقد ترمَّلتِ صغيرة. ربما تلتقين صدفة هنا في بيروت برجل حلمك”.