وجهة نظر 2009
﴿موقع نادي القصة المصري﴾
﴿سيقان ملتوية تحكي الهم العربي ﴾
بقلم: فهد حسين
كاتب وناقد بحريني
يناير 2009
أصدرت الكاتبة والروائية السعودية زينب حفني روايتها الرابعة بعنوان “سيقان ملتوية” عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بدأت حفني بالتخطيط لمشروعها الإبداعي السردي منذ الإصدار الأول، والذي يتمثل في كشف زيف المجتمع العربي عامة والخليجي على الخصوص والسعودي بشكل محصور، ولكن ليس في كل القضايا، بل جندت قلمها وفكرها ومتخيلها لطرح القضايا التي تلامس حياة المرأة السعودية وما يرتبط بها ومعها من قضايا مجتمعية وثقافية وسياسية وغيرها، لذلك راحت تطرح المسائل وتناقشها شخصياتها الورقية في أعمالها الإبداعية بكل جرأة وحرية وإفصاح مبعدة الحواجز والتحذيرات التي يضعها الكاتب على نفسه قبل الكتابة، وهذه الجرأة في مناقشة وضع المرأة السعودية أعطت أعمالها بعدًا ثقافيًا مهمًا في مشهدنا الأدبي الخليجي.
منذ دخولنا الألفية الثالثة والأعمال التي دُوّنت وحملتها دور النشر بوصفها أعمالا روائية كانت تتحدث عن أحد أضلاع الثالوث المحرم، مكتفين بضلع الجنس وما يرتبط به سواء عند المرأة أم الرجل، وابتعدت الأعمال بصورة ما عن الضلعين الآخرين السياسة والدين إلا من خلال عبارات سردية تأتي لتعطي العمل بعدًا يسهم في مساندة ما يطرح، لذلك ناقشت هذه الأعمال التي كتبتها المرأة أيضًا في معظمها اللواط والسحاق، والحب الممنوع ورؤية الآخر إلى المرأة التي حصرها في جسدها وإغوائها للرجل. وأقول هنا هل تطرقت القراءات والانطباعات التي نشرت في الصحافة الإقليمية أو العربية أو حتى العالمية إلى الروائية زينب حفني بوصفها من أوائل الكاتبات السعوديات اللواتي ناقشن قضية المرأة وعلاقتها بالجنس ونظرة الرجل تجاهها؟! لكن الملاحظ أن ما نشر مؤخرًا هي الموجة المنتشرة بين القراءة على الرغم من تلك التقنيات التي تعاملت بها هذه الأعمال والتقنيات التي تعاملت بها حفني في أعمالها.
وإذا كانت رواياتها السابقة ومجموعاتها القصصية تناقش الجنس وتطلعات المرأة في مواصلة مسيرة العمل مع الرجل لبناء المجتمع، فإن مشروعها تتواصل فيه لتطرح بعض القضايا ذات العلاقة بالمرأة أيضًا ولكن لم يكن الجنس أساسها أو مركزها، تطرح ما ينبغي على المرأة والرجل في المجتمع السعودي الانتباه له والتأمل في جريانه وكيفية التأمل معه سواء في غربلته أم تركه أم تطويره، وهذا يتطلب حوارًا متواصلاً بين المثقفين في المجتمع السعودي ومؤسساته الرسمية والأهلية ذات العلاقة بالمرأة وتطوير المجتمع وتحديثه.
تطرح الكاتبة في روايتها قصة عائلة سعودية شاءت الأقدار أن ينخرط أحد أفرادها “مساعد” في المجتمع البريطاني بعد تخرجه وموافقة أبيه على الاستقرار في لندن والبدء بالعمل التجاري فيها، وباستقرار مساعد في المكان وتكوين أسرة تبدأ الأحداث تنمو وتتطور لطرح القضايا ومناقشتها من عدة أطراف، حيث أتت بعدة شخصيات لتقف على كل الآراء في ما نقوم به نحن العرب من عمل إن كان يسهم في تطوير ذواتنا ويعزز مكانتنا بين الأمم والشعوب أم يسئ لنا، وهذا ما جعلها أن توجد شخصية “جيم” البريطاني الذي عمل في بعض الدول العربية بوصفه مراسلا، و”ربييكا” الفتاة التي جاءت إلى الدنيا من رجل سعودي “يوسف يافع” بعد نسج علاقة عاطفية مع امرأة بريطانية “مريام”، ولكنه ابتعد تركها تصارع العالم والحمل بعد رجوعه متخرجًا ليستقر في بلده من دون أن يعرف شيئاً عن “ربييكا”، و”عادل” الشاب العراقي الذي جاء إلى لندن مع عائلته طالبين اللجوء السياسي، الذي رحل إلى بغداد بعشق طفل يحن إلى حضن أمه بعد سقوط نظام صدام، وعلى الرغم من تباين وجهات النظر التي لم تُصرّح بها الكاتبة بين “سارة وعادل” تجاه ما حدث في العراق في بداية سقوط النظام وتدخل أمريكا في كل مقدرات العراق، فإن كان مؤمنًا برحيل طاغية سيطر على كل العراق بيد من حديد، إذ كان يقول: ” الإنسان يا سارة يتعلق بمن يسكب رحيق الوطن في ريقه، وبمن يغرس في محجري عينيه نبتة هويته ص54″، و”زياد” الشاب الفلسطيني الذي جاء إلى لندن حاملا وصية أبويه، الذي كان يقول لسارة ” نحن شعب دفعه الحرمان إلى اختزال الحياة، وتجرع كأس العمر دفعة واحدة ص74″، فضلاً عن الشخصية النسوية التي حركت كل أحداث العمل الروائي وهي “سارة” ابنة مساعد المولودة في بريطانيا، وتربت وترعرعت بين سفوح ثلجها وبردها وعاداتها، وتطلعاتها الاجتماعية والثقافية والعلمية الداعية للتحرر وتحديث المجتمع الذي لم تر فيه إلا التناقض بين ما يحلم به الرجل وبين ما تحلك به المرأة في ديارها، وبين ما هو موجود في هذه البلاد المؤمنة بحرية الفرد واختياراته.
ومن منطلق هذه الشخصيات التي خططت حفني لها بشكل مدروس فني وتقني استطاعت أن تطرح مجموعة من القضايا ومناقشتها من خلال هذه الشخصيات التي ارتبطت بالعرب بشكل أو بآخر، ناقشت رؤية الرجل الخليجي والسعودي على وجه التحديد إلى المرأة حينما تكون زوجة وحينما تكبر وتنجب وتترهل أجزاء جسدها الذي يعتبره الرجل متعته الأولى، وهذا ما ناقشته سارة مع ربييكا باعتبارها تربية غربية وبنات عمها باعتبارهن تربية عربية محافظة، ويمكن بعض تلك القضايا التي تناولتها مثل: الزواج المؤقت، طبيعة العادات والقيم والتقاليد ودورها في بناء شخصية الفرد، نظرة الغرب إلى الإنسان العربي بعد أحداث سبتمبر، علاقة الإنسان بأرضه ووطنه وكيف يترجمه في حياته الواقعية، علاقة الفتاة وبأبويها في المجتمع السعودي والمجتمع الغربي، سياقة المرأة في السعودية، المسارح ودور السينما، رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك المعطيات التي تربى عليها في عقله الباطني الأب الذي كان حاسب ابنه على تأخرها خارج البيت في نهاية العام الميلادي، مما اضطرت إلى ترك كل الأسرة وغناها والذهاب مع صديقها الذي عقد قرانه عليها من دون علم أبيها، واتجهت معه إلى إيطاليا قائلة ” تبادلنا أنا وزياد الابتسامات، أعلنت المضيفة إقلاع الطائرة إلى روما ص124″
أشارت الروائية إلى أن ليس كل ما يأتي من الغرب هو في مقام الأولوية والأخذ به، فقد لا يمثل الحضارة والتقدم واحترام الإنسانية، لذا حينما طرحت حفني العلاقة بين الغرب الذي كان في يوم من ألأيام مالكًا العالم ومسيطرًا على ثرواته ومقدراته، والعرب تلك الدول المتعطشة بعضها إلى الانغماس في ملذات أفكار الغرب، وقد جعلت بريطانيا مثالا للغرب، وبعض العرب من فلسطين والعراق والسعودية في حوار حضوري وثقافي، وأعتقد كانت الكاتبة قاصدة أن تخلق هذه العلاقة الحوارية التي تتبرعم منها طريقة الحياة وأسلوب العيش والتفكير، ومدى تأثر الإنسان العربي القاطن فيها دراسة أو عملا أو ولادة.
عمدت الكاتبة إلى توظيف المتخيل بجدارة حيث بينت العلاقة العاطفية المضطربة بين الإنسان العربي حينما يكون طالبًا جامعيًا وتفاجأ بعادات وتقاليد غير التي تربى عليها، مما تفرز شقوقًا في طبيعة التكوين الثقافي والاجتماعي لكل من الغربي والعربي.
وحينما ناقشت أثر التربية الغربية وارتباط الإنسان العربي بعاداتها وتقاليدها ظهر في الفتاة السعودية سارة التي ولدت وتعلمت في بريطانيا مما جعلها مندهشة ومستغربة لما تراه في بلدها الأم السعودية من نظرة قاصرة إلى المرأة المفروض عليها ارتداء الحجاب والعباءة ومنعها من قيادة السيارة ومنعها من اختيار شريك حياتها، في الوقت الذي ترى نفسها تملك اختيارها وحريتها، وقيادتها للسيارة، وكأن الكاتبة تؤكد نقدها لتلك الممارسات الاجتماعية التي لم تعد متوافقة مع تطور المجتمع والإنسان والعصر، وخصوصًا ونحن في القرن الحادي والعشرين، الذي ينبغي بل يجب التأمل في قضايا المرأة ومعاناتها من قبل الرجل والمرأة والمجتمع معًا. حيث المجتمعات الأخرى تحترم المرأة ليس بوصفها امرأة بل بوصفها إنسان له كرامة واحترام مثلما للرجل. لها الحرية في اختيار تعليمها وحياتها وشريكها الذي سيكون معها في بناء أسرة جديدة، ولها حرية التعبير والتنقل والسفر والقيادة، تلك الأمور التي لا تزال مقيدة في مجتمع الكاتبة، والتي مثلتها في العلاقة المتباعدة بين الحرية التي هي ملك للفرد ولا يحق للآخرين التدخل فيها طالما لا تتدخل هذه الحرية في شئون الآخرين، وبين هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تراقب الناس في سيرهم وجلوسهم وخرجهم وأكلهم وحواراتهم ومواقيت بقائهم في الأسواق، وبين التربية الوطنية التي تغرس في الفرد حب العمل والوطن والدفاع عنه بما يملك كما كان عند عادل الشاب العراقي الذي تضامن مع فكرة القرار الأمريكي بمهاجمة العراق للتخلص من صدام.
تتميز هذه التجربة التي أنتجتها الكاتبة زينب حفني بــقدرة على المزج بين المتخيل والفكرة والموضوع، وعلى استحضار بعض القضايا المهمة في عالمنا العربية، وفي مجتمعاتنا الخليجية من قضايا سياسية إلى اجتماعية إلى تربوية إلى دينية تلك القضايا التي لم تعد ينظر لها من منظور العاطفة والانفعال الوجداني بقدر ما ينبغي الولوج لها لمناقشتها بعلمية وموضوعية وتفكيك أجزائها لغربلتها وأخذ ما ينفع هذا المجتمع الذي ظل ينظر إلى النص الآخر من المجتمع نظرة دونية وجسدية وشبقيّة، تلك النظرة التي كانت ولا تزال المرأة العربية تدافع من أجل نيل حريتها في تعليمها وعملها واختيار شريك حياتها.
أما البعد الفني فالرواية تعتبر تجربة مختلفة في مسار الكاتبة التي انتقلت من تجربة معاناة المرأة وحوارها مع ذاتها وذوات جنسها إلى القضايا التي تهم المرأة والرجل والمجتمع والعالم، لكي تضع المرأة الخليجية في موقع الحدث العالمي وتريدها قريبة منه قارئة ومتحاورة وكاتبة وصاحبة رؤية، كما أنها تميزت بالمزج بين اللغة الشعرية واللغة السردية، بالإضافة إلى تعدد الحوارات المتباينة والمتفقة بلغة المتحدث وليس بلغة الكاتبة وهذا ما يبعد الكاتبة عن فضاء الرواية ومسرح أحداثها لأنها تركت لكل الشخصيات الحركة والنمو كيفما تريد سواء اتفقت هذه الحركة والرؤية من توجهات الكاتبة أم اختلفت معها.
وهذا ما يؤكد أن العمل كان يسير وفق مخطط فني وجمالي وموضوعي منذ البداية، كما أن اختيار الشخصيات جاء من منطلق تعدد المستويات والرؤية والفكر والحلم وفي الوقت نفسه تعدد الأعمار والمراحل، وهي تلك المعنية بالهوية والمكان والتطلعات، بمعنى آخر أن الروائية عمدت إلى الابتعاد عن رواية الشخصية والدخول في اللا شخصية، أي بدءًا من الهروب من عنوان الرواية والابتعاد عن أسماء الشخصيات لتكون عنوانًا للرواية وانتهاءً بمناقشة الوعي داخل المجتمع من خلال بينة المجتمع الثقافية والاجتماعية، وليس من بينة الشخصية وذهنيتها.
إنها رواية تستحق الدراسة والتعمق في تلك الجذور التي ترسمت عليها الهوية والثقافة المحلية والإقليمية، وتلك التشعبات المتنوعة في طرائق التعامل مع المرأة والحياة في كل من الدول المحافظة والمقيد بمجموعة من الأعراف، والدول التي تجاوزت هذه الأعراف وابتعدت عنها بأميال.
***
﴿ الإشكالية القيميّة في الرواية السعودية ﴾
﴿ زينب حفني نموذجا ﴾
بقلم: الدكتور حسين منصور العمري
22 نوفمبر 2009
(العوامل المؤثرة في الأدب السعودي )
بعد دراسة مستفيضة من الدارسين ومخالطتهم للبيئة السعودية توصلوا إلى أن العوامل المؤثرة فعلياً في الأدب السعودي عامة والرواية خاصة هي:
1) لا شك أن العامل الديني من أهم العوامل المؤثرة في الجانب الإبداعي وهنا لا نقصد الشريعة الإسلامية لأن الإسلام يحث على الإبداع كما يحث على الحياة والمقصود هنا السلوكيات التي ظاهرها دينيا وباطنها عادة وتقليداً.
2) الانفتاح والتواصل مع المجتمعات الأخرى وهو جانب مهم لتقدم أي مسيرة
3) التحول الاجتماعي الذي رافق مرحلة الطفرة والذي أثر على مسيرة الرواية بشكل خاص لأن هذا النوع من الأدب بحاجة إلى الاستقرار النفسي والاجتماعي.
4) انفتاح الأديب والمثقف السعودي على التيارات الفنية والجمالية قديمها وحديثها من أمثال أدونيس , ومحمود درويش , ونزار قباني .
ومن خلال هذه المؤثرات ظهرت لدينا تجارب روائية جديدة لها اهتمامات بالرؤية الأخلاقية وسلم القيم والتي ظهرت عند طاهر عوض سلام في رواياته المتعددة , وكذلك الروايات التي اهتمت بالجوانب الفكرية والتعليمية عند الروائي حمدي الراشد بالإضافة إلى العديد من الروائيين الآخرين الذين تناولوا موضوعات مختلفة أمثال (رجاء العالم) التي أخذت على عاتقها نمط الرواية التجريبية .
وبعد هذا التطور في عالم الأدب والرواية السعودية لا بد من الوقوف على نموذج مهم جداً من هذه النماذج إذ ارتأيت الوقوف على تجربة زينب حفني لما وصلت إليه هذه الأديبة من قوة فنية وموضوعية .
رواية ملامح
تعد هذه الرواية من الروايات المهمة من وجهت نظري على المستوى العربي وليس السعودي فقط إذ تحملت الكاتبة عبء ردّات الفعل التي صدرت عن العقول النقدية التي أصبحت تعاني من العفن في مجتمعاتنا العربية إلى درجة رمي الكاتبة ببنادق الكفر والإلحاد والخروج على المجتمع إلى غير ذلك من هذه المواقف الخارجة عن مألوف النقد الأدبي فالكاتبة كانت صادقة مع نفسها ومع قلمها , بينما توارى جل الكتاب العرب وراء ما يعرف بالرمزية أو الخيال الكوني ,في محاولة منهم لإيصال هذه الأفكار لكنهم أخفقوا كثيراً.
ومن وجهة نظري فأن تأثير زينب من خلال رواياتها في المجتمع السعودي كان كبيراً فأحيت الجسد الميت وأنبتت العشب المصفر , وأعادت الذاكرة إلى مجتمع فقد الوعي منذ زمن بعيد ولا يفكر إلا في غطاء الوجه وجلب الناس إلى المساجد بالعصي كالذي يسوق غنمه إلى حظيرته عند المساء . وما ينطبق على رواية ملامح ينطبق أيضاَ على (أشياء تغيب ) و (سيقان ملتوية) وغيرهما . وقد حاولت التركيز على عدة قضايا في روايتها هذه للأهمية .
أولاً : مصادرة الذات :
وقد وضح ذلك من خلال الكلمات الأولى التي صدرتها روايتها حينما اقتبست عن جاك روسو قوله (( حين يدق ناقوس الساعة سأقف أمام خالقي المعظم وهذا الكتاب في يدي , قائلاً بشجاعة : هذا ما فكرت به وفعلته ولم أنسى ذكر الطالح من أفعالي ولم أضف من الخير مالم يكن موجوداً بالفعل , عرضت نفسي كما كنت : حقيرا استحق الاحتقار أو عظيماً سامياً في فكري )) . فقد تبنت هذه الفكرة وحاولت أن تكون عنوانها فإما أن تكون محتقرة وهذه صورة المرأة السعودية في نظرها وأما أن تكون صاحبة فكر وشخصية وكينونة وبذلك تستحق أن يطلق عليها إنسانة وهذا ما حاولت أن تعممه في مساحات رواياتها جميعاً .
فتبدأ زينب بروايتها بالرفض لكل شئ حتى الطقس ودرجات الحرارة العالية , ولقمة الخبز من قولها (ازدردت) إذ لم ألمح أي ملمح مريح من خلال لغة روايتها إلا حينما تقول (( وهذا ما شجعني على تناول فطوري في الشرفة المفتوحة المطلة على حديقة المنزل )) لكن هذه الفرحة تلاشت إذ سرعان ما وجدت زوجها يقف أمامها رامياً ورقة بوجهها يستفزها قائلاً (( هذه ورقة خلاصي منك )) ومن هذه اللحظة تبدأ عملية التأزم في الرواية وهو أسلوب لم نعتد عليه من اللحظة الأولى , إذ تبدأ ملامح شخصية الزوج بالانتهازي المتسلط الذي لم يحترم أي شئ للمرأة وهي الشخصية التي أرادت الكاتبة ؟أن تعممها على كل رجالات الجزيرة العربية , فهي امرأة جميلة وتحمل كل صفات الأنوثة التي يرغب الرجل في امتلاكها , ورغم كل ذلك فإنه يضحي بزوجته دون أي سبب كان , والقرار الذي اتخذه ابن لحظته ” لن أسمح لك بمزيد من الإهانات سأمنحك بضع ساعات لتلملمي أغراضك وترحلي من بيتي ”
هذه كلها مقدمات أوحت إلينا الكاتبة من خلالها بأن الرجل لا يهمه أي شئ إلا الوصول إلى مبتغاه سواء كان منصباً اجتماعياً أو مبتغاً ماديا , المهم الغاية المادية , التي حكمت بين الزوجين حسين وثريا والتي انتهت أخيراً بالطلاق وتدمير كل شئ بنوه معاً .
ثانياً:ها وجود إلا عند ما كانت في قمة شبابها , إذ كانت تشكل له ثروة لا نهاية لها , فهي الزوجة , وهي الطريق إلى الوصول عند المسئولين فكلما عثرت له قضيه أو أراد أن يصل إلى أمر ما يأمرها بالاتصال بالرجل أي رجل من أجل تلين موقفه ودعوته إلى سهرة حمراء , وبعدها سيحصل حسين على ما يريد , فهو الذي ارتقى إلى أعلى سلم الوظيفة بهذه الطريقة وهو الذي جمع ثروته بهذه الطريقة وهو الذي أصبح مشهوراً من خلال تسلطه على شرف زوجته , فهي الأداة , واللقمة السهلة لهؤلاء المتوغلين بقوتهم المادية والاجتماعية , ويستغلون من وجهة نظرها أي الكاتبة فكرة ( الرجال قوامون على النساء ) حتى بالفسق والقهر والوقوع في الرذيلة , فهذه القيمة الدينية قتلت المرأة السعودية بشكل خاص لأن الرجل استغلها فأساء صلاحياته .
ثانياً: مصادرة الآخر:
والآخر تنطبق على كل شئ , تنطبق على المال والوطن والولد وأي شئ له قيمة وجدانية عند الإنسان وما يهمنا في رواية ملامح هو مصادرة الابن حقه في الحياة , صحيح أن حسين تاجر بأنوثة ثريا زوجته من أجل الوصول إلى كل شئ لكن الأهم من ذلك أنه تاجر بابنه زاهر الذي لم يلد غيره وإذا كان الرجل مستعداً للتخلي عن مولوده ,فهذه قمة السفاهة التي لا يمكن تعديها ونسيانها .
فلحظة فراق زاهر الولد الوحيد الذي أراد أن يبعده إلى الأردن وهو في المرحلة الثانوية من عمره كان لها ثلاثة أبعاد ما يتعلق بالأب من جهة وما يتعلق بالأم من جهة ثانية, والولد من جهة ثالثة.
” لما دفعني إلى اتخاذ قرار إبعاده عندما أخبرته أنني حجزت له في مدرسة داخلية في الأردن , بكى وقال لي : أبي أريد العيش معكما أنت وأمي ” لا أر يد السفر إذا كانت قد أغضبتك في شئ ، أعدك بأنني سأفعل كل ما تريده , لم أتأثر باستعطافه , كنت دوماً قاسياً معه , لا أذكر أنني قبلته منذ ولادته سوى مرات قليلة . في المطار وهو يودعني قاومت عزوفي عنه , ليلتذاك نامت ثريا في غرفته ضامة وسادته , سمعت صوت نحيبها ”
فالموقف القاسي الذي يبتعد كثيراً عن معنى الأبوة هو الذي كان مسيطراً على مشاعر حسين والعكس تماماً سيطرت مشاعر الأمومة على ثريا أمه فأصبح النحيب رفيقها طوال الليل , فقد صادر الأب إرادة الأم, وكذلك صادر إرادته التي يتظاهر أمامها بالرجولة والصلابة وهو في داخله يتعذب كل ذلك لأجل أنه رجل ويستطيع أن يفعل كل شئ لكن المرأة ليس لها شئ حتى في تقرير مصير ولدها , أوفي حفظ كينونتها وشرفها , فهي مصادرة من كل شئ مستسلمة خاضعة لكل القوى المحيطة بها .
ولم يفعل الزمن فعلته لقد مضى وقت طويل على هذه الحادثة وتخرج زاهر من تعليمه وطلق حسين ثريا ووصل كل منهما إلى مرحلة يائسة في الحياة وبقي خيط الأمل عند الأم بعودة ولدها والاستظلال بظله لكنه فاجأها بقراره
” أجابني ببرود : لم أقرر بعد الناس يقتلون كل يوم في أفغانستان والمسلمون مضطهدون في بلاد الكفار , ونحن نفكر في أنفسنا
_ نحارب بردة فعله, علقت: وماذا تريدنا أن نفعل ؟
_ نحارب معهم ألسنا أبناء أمة واحدة ؟
_ صرخت في وجهه ماذا تقصد بكلامك ؟
_ أقصد أنني قررت السفر إلى أفغانستان لأجاهد مع أخواني هناك
_ ماذا ؟ هل جننت ؟ ماذا عن دراستك ومستقبلك ؟
_ مستقبلي هناك ”
هذا الحوار يبين البعد الثالث وهو ما أصبح عليه زاهر. لحية طويلة , وثوب قصير ,و فكر منحاز باتجاه واحد وهذه تولدت لديه من خلال عدة مواقف مر بها, مثل برود العلاقة مع الوالدين مع مرور الزمن , وتأثير بعض الاتجاهات في المجتمعات العربية وهي أغلبها اتجاهات متطرفة وغير واعية , وهذا كله أدى بحياة زاهر إلى النهاية الحتمية , وهي الموت في أفغانستان بحجة الجهاد .
إذاً فالخلل المجتمعي في السعودية لم يؤد فقط إلى التأثير على فئة دون فئة فكل فئات المجتمع من وجهة نظر الكاتبة معرضة للانهيار والاستغلال , الأمر الذي سيؤدي نهاية المطاف إلى تدمير المجتمع بأكمله , وزاهر هو ضحية كما هي ثريا ضحية وكما هو حسين ضحية .
ثالثاً: مصادرة القيم:
لا نقصد بالقيم العادات والتقاليد فقط بل تتعداها إلى فكر الإنسان ودينه أو معتقده أو كل مكونات هذا الإنسان , منذ لحظات التفكير الطفوليّة الأولى وحتى نمط تفكيره المتقدم في أواخر سني عمره , التي توحي له بضرورة الالتزام بقواعد وسلوكيات وقيم خاصة .
وإذا حاولنا إلقاء نظرة على المجتمع السعودي نجده يتمثل الاتجاه الديني أو أفترض ذلك لأنهم حاضرة مكة والمدينة التي باركهما الله بخاتم الأنبياء والرسل , ومن أولى المبادئ التي حافظ عليهما الإسلام كرامة المرأة والتي حاولت أن تنبشها زينب حفني في كل نصوصها القصصية وخاصة رواية ملامح التي هي محور هذه الدراسة , وإعطاء الصورة المأساوية التي تعيشها المرأة في المجتمع السعودي , إذ تتعرض يومياً للانتهاكات والاستفزاز واستخدامها كدمية بين الأيادي اللاعبة وقد عرضت الكاتبة نماذج من هذا الاستغلال مثل :
1. نموذج الزوجة ثريا التي استغلها زوجها إلى أبعد درجات الاستغلال وقدمها وجبة شهية لكل طالبيها من أجل الحصول على مراده , فوصل من خلالها إلى أعلى المراتب في الوظائف , وحصل ثروة مالية من خلال استغلالها أيضاَ . وبعد ذلك لم يحافظ عليها بل ألقاها على قارعة الطريق فأصبحت المرأة العجوز التي تموت بقهرها دون مواسي لها.
2.نموذج الرجل البشع والإبنة المقهورة :
من يفكر بأي مجتمع لا يتصور أن البشاعة تصل إلى اغتصاب الأب لأبنته وهي صورة قد نخبرها في المجتمعات اللادينية , واللاأخلاقية أما مجتمع مثل المجتمع السعودي الذي يقود الناس إلى الصلاة بالعصا , ولا يلبس إلا الثوب الشرعي , ولا يجوز فيه حلق اللحية إلا لغايات التعقيد فهذا من الغرابة بمكان , وقد ركزت الكاتبة على هذا الجانب لأنها تتألم وتعرض الفاجعة بأسلوب القلوب المنكسرة لا المتشفية
” اغتصبها أبوها وهي في العاشرة من العمر, ظل يغتصبها حتى الخامسة عشرة حكت ما وقع لها لصديقتها الحميمة, فحرضتها على إبلاغ السلطات، فاعتقل والقي في السجن إلى أن مات ”
ومثل هذه الحوادث في نهاية الأمر ضحيتها المرأة, إذ انقضى عليها وعلى مستقبلها, فالأب صحيح مات, ولكن البنت ماذا حدث لها ؟
3.نموذج المرأة المحرومة :
” عالم المرأة يتسم بالغموض, تدور فيه الأمور المحرمة بسرعة تامة.
كانت تقع في بيتي الكثير من الحكايات الطريفة طلاق فلانة من زوجها , رجل الأعمال بسبب علاقة عاطفية مع فتاة مصرية مشهورة ,تورط سيدة متزوجة في منتصف الأربعينات بعلاقة غرامية مع صديق ابنها ”
تعيد الكاتبة معظم فشل المجتمع سواء على مستوى المرأة أو الرجل إلى الطفرة التي أصبحت سمة عامة في المجتمع السعودي ، فالنساء الخارجات عن المألوف أي؛ الالتزام هن أزواج لرجال أعمال فثريا نفسها أصبح زوجها ثرياً ‘ فطلقها وتنكر لها , وكل القصص التي تدور في بيتها هي لنساء رجال أعمال أثرياء ؛ فهذه المرأة التي أصبحت صديق ولدها وهي من جيله وتكبره بسنوات كثيرة ‘ اضطرت أخيراً إلى اللجوء إليه لإشباع رغبة متأججة في صدرها , فقدتها ولم تجرؤ للبوح بها ، فصارحت نفسها وتعلقت بذلك الشاب ليكون ملجأها الأخير , فهي حالات شذوذ اجتماعي لم يعهدها المجتمع السليم بل يقاومها , لكن المجتمع أصبح ينظر إليها وكأنها من مكوناته القيميّة ويصل الحرمان بالمرأة إلى رفض تزويجها بسبب ثروة الأب والخوف عليها من الضياع وهي علة أخرى .
” توفي أبي قبل سنوات ترك لي إرثاً كبيراً, الآن يقف أخواتي ضد زواجي بحجة أن كل من تقدم للزواج مني طامع بمالي وأنهم يريدون التأكد أن من سيتزوجني راغب في شخصي وليس في شيء آخر ”
مثل هذا القيد قد يترك أثراً سلبياً في حياة تلك الفتاة وغيرها وقد يضطرها الأمر إلى السلوك في طريق وسخ لا يحمد عقباه وهذا ما أرادت الكاتبة أن تركز عليه وتنبه من عواقبه .
إيقاع الرواية :
لقد اتسمت هذه الرواية بقوة التركيز والإيحاء المغناطيسي الذي انتشر على صفحاتها , لم تقع الكاتبة بأي أسلوب من الأساليب المؤذية إلى تراجع القارئ عن قراءة الرواية , وهذا من أهم الجوانب الواجب على الكاتب التحوّط له ,فالرواية تنتمي إلى الروايات الحديثة إن كان على مستوى الأسلوب أو الحدث , فقد طوعت الشخصيات إلى درجة أنها تنقلت بين طيات الرواية بسهوله ويسر كما لو كانت أحجار الشطرنج وكذلك لم أشعر بأن الأحداث الروائية نشزت في لحظة من اللحظات ويمكن التأكيد على ذلك من خلال الاتجاهات التالية .
1) حركية الأنا والآخر :
لقد ابتدأت الكاتبة روايتها بقولها “لا أبالغ ” وهذه العبارة تحتمل معان منها , أن الكاتبة تريد أن تضع القارئ في موقع المتلقي غير الشاك وأن كل ما يقال فيها صادق وأمين , لذلك ابتدأت أحداثها , بفكرة الجو الحار في بلادها وأن فصل الشتاء لا يزورهم إلا في شهرين فقط يناير وفبراير وباقي أيام السنة شمس حارقة ورطوبة لزجة وهي أسوأ أنواع الأجواء التي يعاني منها الإنسان , ثم سرعان ما تنتقل إلى العلاقة الزوجية التي ابتدأت بالانهيار ” حياتي كلها كانت معك سلسلة من المفاجآت لذلك قتلت في داخلي بذرة الاندهاش من أي تصرف حقير تقوم به ”
ومن الطبيعي أن تدخل الآخر في صراعها مع زوجها فيكون زاهر ولدها هو الضحية رقم اثنين بعدها , إذ سرعان ما يبعده والده إلى الأردن ولا يعود إلا بعد أن تحول إلى إنسان ضائع لا يعرف ما له وما عليه , لكنها أدركت في لحظة من اللحظات أن الرجال قد يختلفون قليلاً وجعلتها الظروف تدرك أن الإنسان الواعي والمثقف هو الوحيد الذي يساعدها في الخروج من محنتها تقول ” لا أعرف لماذا تذكرت فجأة عمر واحد من أفضل عشاقي كان ينتمي إلى الطبقة المثقفة ,مهتماً بالسياسة والأدب والتاريخ ليتني أملك عصا سحرية , أعيد بها زمني للوراء , لكنت استبقيته ”
فنموذج عمر تتمنى عودته لكنها نسيت فؤاد اللاهي معها أيام مراهقتها والذي جعلها تزيل الغشاوة عن الزمن , ولم تتمنى عودة زوجها على الرغم أنه أصبح مليونيراً , أما نظرتها للمرأة فهي نظرة إشفاق على حالها لأنها هي مركز الاستغلال، ومثالاً للذل والقهر والاستلاب .
2) حركية الحدث:
كانت الأحداث في هذه الرواية متراصة كبقع الفسيفساء يظهر الاختلال عند زوال أحدها , ولذلك ظهرت الرواية متراصة ذات بناء ناجح ومحكم فقد تلاحقت الأحداث وتركزت على جانب واحد وهو الانحلال في المجتمع السعودي من خلال الطفرة المالية التي حدثت له في السنوات الأخيرة فالمرأة لا تشكل أية حقيقة ذات قيمة في المجتمع فهي لا تملك من الدنيا سوى أدوات الجلي والغسيل وتفريغ شهوة الرجل عندما لا يجد كائناً آخر , وهذا انسحب على ثريا , وعلى هند وعلى كل النساء اللواتي التقتهنَّ في الصالون واللواتي أصبحن من روادها في البيت , وكل امرأة تتحدث وتروي مأساتها مع زوجها رجل الأعمال , أو المليونير , أو صاحب المكانة الاجتماعية ونتيجة لذلك تلجأ المرأة إلى عادات شاذة كالسحاق تجبرها الظروف على التعامل معها .
3) حركية الزمن :
لقد انحصرت الرواية في زمن طويل ويتبين ذلك من خلال الملامح الأولية لبطلة الرواية ثريا , فقد ابتدأت عندما كانت مراهقة ولم تعرف في الحياة أي شيء وسارت أحداث الرواية إلى أن يصل عمرها ستين سنه لا بل مرحلة الشيخوخة تقول ” أحياناً أتصرف , تصرفات لا أعرف لها تفسيراً , لا تناسب شيء، لا تتلاءم مع شيخوختي , أمد يدي , أفرك حلمة نهدي , لا اهتاج , أكتشف أنهما قد فارقا الحياة , أصبحا ضامرين لا أثر للحياة بينهما “16
فهذا الوصف ما بين سني الطفولة الفقيرة والمعذبة وما بين سن الشيخوخة تمر الحوادث وتكبر الأجيال , لكن الألم والمأساة التي أرادت الكاتبة أن تنبه إليها أن هذا الزمن الطويل لم يستطع تغيير المجتمع أو الرقي بالإنسان لأن يشعر بأنه إنسان مكرم في هذه المجتمعات , وهذه صرخة أرادت الكاتبة أن تطلقها من مكان إقامتها في باريس أو لندن إذ لو كانت مقيمة في جدة أو الرياض لحكم عليها بالحدود لأنها مارقة وخارجة عن قيم وتقاليد المجتمع السعودي .
4) حركية الأسلوب:
فقد كانت الكاتبة ناجحة إذ تنقلت على صفحات الرواية بأسلوب ممتع وبسيط مستخدمة لغة راقية بعيدة عن الاقتحامات والفجوات التي يقع فيها الكتاب أحياناً. لا بد أنها وصلت إلى مرحلة متقدمة على مستوى الإيحاء اللغوي والحوار الداخلي الذي يجعل القارئ مشدوداً وجزءاً من النص , فلا يستطيع التفلّت إلا بعد الانتهاء من الرواية.
****